تشرين عاد، ولا نزال نردد: نريد وطناً! هذه الصرخة التي ظلّت تدّوي في الساحات، وفي كل مكان، والتي أضحت اللازمة الرئيسية لكل متظاهر نزل يطالب بحقّه في العيش الكريم، على أرض دافع عنها هو وأخوته وآباؤه وأجداده، يوم أطبق الظلام على سمائها وهجمت خفافيشه تريد امتصاص دمها!
نزل للساحات وبين شفتيه صرخة انفجرت كالبركان ليقذف بحممه على رؤوس الفساد وسارقي أعمار الشباب، الشباب الذين أخذوا يحملون هذه الصرخة شعاراً لهم، ولكل مَنْ ذاق مرارة الحرمان واليتم والقهر والجوع!
قد يطرق أذهان البعض سؤال : لماذا يريدون وطنا، أليس الذي يقيمون فيه الآن هو وطنهم ؟!
والجواب: نعم، لكنهم لم يشعروا به كذلك أبدا!
الوطن يعني الحضن الدافئ، والقلب الطيب، والروح السامية الخلّاقة، والعنوان، والشموخ، والمحنّة، والانسانية، والكبرياء، والراحة، ورغد العيش، والسكن اللائق، وفرص العمل، واحترام الذات، والأمن والأمان، والسعادة في كل مكان!
كل هذا لم يحظ بها الشباب لحظة واحدة، لهذا فقدوا الإحساس بالوطن، وباتوا يحلمون بوطنٍ يشاهدونه عند الآخرين عبر الإنترنت والفضائيات وكرنفالات الفرح في كل مكان خارج الحدود!
أحلامهم لم تتعدّ الأرض التي ولدوا عليها، وسمعوا عنها الحكايات الكثيرة من جدّاتهم وأمهاتهم، وحينما فتحوا عيونهم وعرفوا أن هذا الحلم سراب، انتفضوا صارخين : نريد وطناً!
كم هي مؤلمة حقاً هذه الصرخة، حين تسمعها من فم شابٍ وفتاةٍ لم يبلغا الحلم بعد؟!
الأعم الأغلب من المتظاهرين كانوا من الشباب الذين لم تبلغ أعمارهم الخامسة والعشرين، بل منهم من لم يبلغوا الثامنة عشرة. لم يبصروا من الوطن الذي سمعوا وقرأوا عنه شيئاً ابدا، فأحسّوا بضياعهم، وضياع كل شيء جميل في حياتهم، بل ضياع حياتهم كلها، واجهوا الرصاص الحي وقنابل الغاز المسيّل للدموع بصدور عارية، مرددين قول الشاعر محمود درويش : مَنْ ليس له وطن، ليس له كفن!
لأجل أن يمسكوا بحبل نجاة قبل أن تغرق السفينة نهائيا خرجوا للساحات يطلبون وطناً.. وطناً يليق بهم ويليقون به، وطناً يحنو عليهم ويضمّهم بين جناحيه قبل أن يتشردوا لاجئين في بقاع الأرض، وطناً حلموا به منذ نعومة أظفارهم!
لهذا علينا أن نحقّق كل ما يريدون، وان نعرف أنّ المسؤولية الكبرى تقع على مَنْ يقود البلاد والسلطة العليا أولاً، وعلى كل ذي عقلٍ حليم. وعليهم أن يعوا المسؤولية هذه ويفتحوا الأبواب والنوافذ الموصدة مع الشباب اولاً وجميع المواطنين ثانياً، ويبدأوا بتصحيح الأخطاء التي أودت بالبلاد الى الخراب قبل أن تكون الهاوية، كي يشعروهم بأن ثمّة وطناً يقيمون فيه، بعيداً عن الحرمان والقهر والمطاردات وسفك الدماء البريئة. علينا أن نعيد لهم الإحساس بوطنٍ حرٍ يعيشون على أرضه بسلام وسعادة وهناء وعيشٍ رغيد!