اخر الاخبار

ليس جديدا ما يكثر الحديث عنه هذه الأيام بخصوص “الآداب العامة“ و"النظام“ و"الحياء“ و"حسن السيرة والسلوك“، بجانب تعابير أخرى مدرجة في القوانين العراقية، منها ما هو موروث من النظام المقبور، الذي عاقب على إهانة " الموظف العام او المكلف بالخدمة العامة او السلطات العامة"، لا بل حتى هناك نصوص بعقوبات على من يعترض أمره، وهي مفصلة على مقاسات نوعية الحكم آنذاك، الذي وزع جرائمه على المواطنين بغض النظر عن قومياتهم واديانهم وطوائفهم.

ورغم التعديل الذي اجري على المادة ٢٢٦ من قانون العقوبات البغدادي، فان هناك العديد من المواد والقوانين التي تعيق فعلا ممارسة الحق الدستوري في التعبير عن الرأي.

واللافت ان كثيرا من التعابير المستخدمة حمّالة أوجه، كما انها بلا معايير او ضفاف محددة، ربما باستثناء القليل الذي هناك توافق مجتمعي عام بشأنه. وهنا يبرز السؤال عن آلية القياس ومن المؤهل للقيام به؟

وطالما هي حمّالة أوجه، فانها عرضة للاجتهاد الذي قد يصيب او يخطيء، فان أصاب ففيه منفعة قد تكون شخصية او عامة ، وان اخطأ فقد تترتب عليه أمور كثيرة ، لاسيما عندما يكون الاجتهاد متعلقا بالشأن العام. كأن يتعلق بالانتخابات - اذا تحدثنا عن واقع حال اليوم- وعن قبول واستبعاد هذا المرشح  او ذاك ، او عندما يتعلق الامر بالحديث عن الإساءة الى جهة او شخصية ما. وقد راينا في الفترات الأخيرة كيف ان عددا من السياسيين في مواقع المسؤولية رفعوا دعاوى قضائية ضد ناشطين او اعلاميين، رغم ان عددا منهم تراجع، جراء ضغوط او ادراجها ربما في خانة " المكرمة " المحسوبة جيدا، خصوصا عشية الانتخابات.

لا خلاف على أهمية القيم والآداب العامة التي تشكل نسقا متوافقا عليه، يحكم السلوك اليومي للفرد، وهي بذات الوقت تشكل ضمانات حماية واستقرار للفرد والمجتمع، ومصدرها عناصر وقوى متعددة، مجتمعية ورسمية تعود للدولة. وفي بلد متعدد مثل بلدنا فانه يمكن للقيم المشتركة الاسهام الفاعل في بناء أسس للتعايش السلمي المجتمعي، وبناء أجواء الثقة بين أطياف الشعب المختلفة.

واضافة الى هذه الجوانب الإيجابية، هناك أخرى لا بد من الحذر ازاءها، خصوصا في الفترات غير المستقرة، وعندما تكون هناك اختلالات في العلاقة بين السلطات والمجتمع، مع ميل الأولى الى التشدد والتفرد والضيق من الأصوات خارج جوقة وعاظ السلاطين، وسعي تلك السلطات الى الهيمنة والامساك بكل الخيوط، جراء القلق المتولد من أجواء عدم الثقة الناجمة عن غياب العدالة، وما يمكن ان يحفزه ذلك من حراكات وحتى صدامات. 

وهنا يتم اللجوء الى الجانب الاخر المتشدد، في استخدام ماهية ومعاني "الحياء والآداب العامة والنظام وحسن السلوك والسيرة الخ“، وغالبا ما يتوج ذلك باجراءات قانونية او غيرها بهدف اسكات الأصوات المعارضة او الناقدة. وهذا يعمق فجوة عدم الثقة وحالة الشكوك المتبادلة وعدم الاستقرار، وفي ذلك خسارة كبيرة وضياع للوقت والجهد والمال، وهو ما كان جليا عندما تجبر النظام السابق وسد كل منافذ الرأي الآخر الناقد والبنّاء.

لا حل الا بالنظر الى هذه القيم في سياقاتها التاريخية ونسبيتها، وتنمية الثقة المتبادلة التي تبنى فقط وفقط في أجواء الحريات العامة والخاصة، واستقلالية القضاء والقدرة على انفاذ القانون على الجميع، وان تكون هناك فعلا دولة مؤسسات ومواطنة وعدالة، تستند الى دستور بمواد واضحة المعالم والحدود، وتتوفر الإرادة الفعلية للالتزام بها وتنفيذها.

فاجواء الشك والريبة بين المواطن ومؤسسات الدولة، لا تعالج اطلاقا بالمزيد من التعسف في تفسير المفاهيم ذات العلاقة بالسلوك العام والضيق بالآخر المختلف. وان محصلة كل ذلك هي المراوحة، التي تعني التراجع والتقهقر بحكم تقدم الزمن، وبالنظر الى ما نشهده من تطورات هائلة في حاجات المجتمع، وفي العلوم والتكنولوجيا، وفي تسابق الأمم ليكون الانسان فعلا أثمن رأسمال.