إذا كان تقدم وازدهار أيّ مجتمعٍ بشريٍّ مرتبطًا بتحديد وتفعيل القاعدة الاجتماعية القادرة على بناء دولة الحرية والعدالة، فإنّ هاتين المهمتين تكتسبان في العراق أهميةً استثنائية، بسبب اختلاف نمط العلاقات الطبقية فيه، كدولة ريعية تتدفّق فيها الثروة من بيع الموارد الطبيعية بدلًا من العمل المنتج؛ ممّا يُوفر لها، وهي المالكة للريع والمسؤولة عن توزيعه، فرصا لتشويه الوعي الطبقي وتشكيل الحدود المخادعة بين الطبقات ووأد المشروع التنويري والتنموي أو عرقلته.
ولهذا، وفي سياق كفاحهم لتحقيق هدفيهم النبيلين والمترابطين: حرية الوطن وسعادة شعبه، كان تحديد هذه القاعدة، ورصد ما يطرأ عليها من متغيرات، وتبنَّي مهمةَ تنويرها بمصالحها، ووضع آلياتِ تعبئها لانتزاع حقوقها، وتفكيك أوهام الزبائنية التي تُطوِّق أياديها، وتحريرها من أغلال الدولة الريعية، من أهم أولويات الشيوعيين، منذ نجاحهم في بناء تنظيمٍ سياسيٍّ يدمج النظرية بالممارسة، والنخب الثورية بالجماهير المقهورة.
وبعد سقوط الدكتاتورية وهيمنة ثالوث الفساد والمحاصصة والسلاح المنفلت، واجه الحزب الشيوعي العراقي من جديد مهمة إعادةَ تشكيل الوعيٍ الطبقيٍّ الجذريٍّ. وسخّر لذلك، وهو المثقل بجراحٍ كثيرة ومتنوعة، كلَّ إمكانياته، سواء في التصدي للإقصاء السياسي والاجتماعي المفروض على الشغيلة والفلاحين والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، أو عبر الفضح الجريء للظلم الفاحش في إعادة توزيع الثروة، وتبصير ملايين المهمشين، والشباب العاطلين عن العمل، والنساء اللواتي تضاعف قهرهن واستعبادهن، وفقراء الريف الذين ازدادوا إملاقًا، بمصادر عذاباتهم وسبل الخلاص منها. كما واصل الحزب حماية الأواصر التاريخية مع مثقفي البلاد، الذين بقوا، حتى في حلكة الخراب، نبضًا يمد قلبه بالضياء، وشركاءَ في كفاحه ضد الهيمنة الأيديولوجية للطغاة، ولتحويل المعاناة إلى وعيٍ وتنظيمٍ وفعلٍ ثوري، واتسعت دوحته لاستقبال أجيالٍ فتيةٍ منهم.
ولأنّ تغليب الهويات الفرعية على الهوية الوطنية الجامعة كان اللعبة التي غذّت، وما تزال، مشروعَ منظومةِ المحاصصة للتضليل والتجهيل والتدجين، اهتمّ الحزب بتنمية وعي الناس بخاطرها على السيادة الوطنية، ومكانة الدولة في المنطقة والعالم، وعلى نضالهم ضد الاستغلال ومن أجل التطور والتنمية المستدامة.
وحين توفّرت فرصٌ للديمقراطية السياسية، رغم محدوديتها، وسُنّ دستورٌ يُقِرّ بالتداول السلمي للسلطة، رغم الغبار الذي علا بعض مواده، كان الشيوعيون الأصدقَ في تنمية الوعي بالتغيير السلمي، وبتبنّي استراتيجية نضالية سلمية، مهما كلّفت من تضحيات واتسمت بتعقيدات، لا لانسجامها مع طبيعة مجتمعنا وظروفه فحسب، بل لأنها الأكثر اتساقًا مع الأنسنة التي يتّسم بها فكرهم، ولثقتهم بأن أيَّ تراكمٍ طويل الأمد للمتغيرات سيؤدي، بالضرورة، إلى عالمٍ لا استغلال فيه ولا قهر، عالمهم الذي يستعيد فيه البشر آدميتهم، دون أن تخدعهم يومًا ادّعاءات المستكبرين، من داخل البلاد أو خارجها، وبمختلف ألوانهم وألسنتهم ومواقيت دعواتهم، بالحرص على الحريات التي حلمنا بها دومًا.
وعلى ضوء هذا كله، لم أجد قوة أكثر وفاء لقضية تنوير المجتمع العراقي، الذي نفخر بالانتماء اليه، وأمضى فاعلية لتحقيق التقدم، من الحزب الشيوعي، فقررتُ واثقًا أن أُنتخِبَ مرشحيه، وأن أدعو كلَّ حريصٍ يشاركني الاهتمام بالتنوير إلى التصويت لهم. إنّ تصويتنا للشيوعيين هو عرفانٌ بالتضحيات الغوالي التي قدموها لتنمية وعينا بمطامحنا الطبقية والوطنية، وتعبيرٌ عن فهمنا العميق لما ستؤمّنه برامجهم للتغيير الشامل من تلك المطامح، وانعكاسٌ لثقة مجتمعنا بهم، وهو الذي عرفهم تمامًا، وعلى مدى تسعة عقود، بعفّة اليد والقلب واللسان، بتقدُّم الناس في سوح الدفاع عن الحق، بالصلابة في وجه الظَلَمة، بسواعد مهّدت تربة الوطن للمطر والغلال، ولوّنت نهاراته بالبهجة، ومنحت مساءاته نكهةَ الرحيق.