اخر الاخبار

اعترف بأنني احتجت لزمنٍ طويل، قبل أن أوافق فولتير على استعداده للموت دفاعًا عن حق مخالفيه في التعبير عن آرائهم، وأن أنحني للإمام الشافعي لقولته "رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب". وحين اهتديت، تقت لأن يشاركني الآخرون هذه القناعة، وفيهم من أثق بحكمته وبسالة كفاحه. غير أن حوارات متواصلة، وأحيانًا صاخبة، وإن لم تخلُ من مودة، علمتني مرةً أخرى أن القليل مما نشتهي ننال، وأن نعماء الحياة تبدو حبلى بأبؤسها، على حد قول الجواهري الكبير.

ففي سياق ما جرى من نقاشات عن جدوى التصويت في الانتخابات من عدمه، وجدت بعض الأحبة، سواء من الداعين للمشاركة أو من المقتنعين بالمقاطعة، يكبرون على مخالفيهم الحق في ذلك، حتى لو اقتصر الأمر على الحواشي لا المتون، ما أكد لي الحاجة للمزيد من التبصّر في الحاجز العازل بين اليسار المعاصر والمتجدد، وبين التشبث بالفكرة وإلباسها أقنعة تمنع إعمال العقل فيها، فنحن اليوم أحوج من أي وقتٍ مضى، ليس للتفكير الخلّاق فحسب، بل ولإدارة الاختلاف بما يضمن وحدة أقوى للإرادة والعمل، تتناسب مع ما نواجهه من تحديات.

لقد لمست، في قراءتي المتواضعة لقضية المشاركة في الانتخابات، حرص الفريقين على تحقيق الخلاص من منظومة المحاصصة، التي أوقعت البلاد في أزمة بنيوية شاملة، وتماهت مع الفساد، وأُذكت الاستقطابات الطائفية والإثنية، وفككت مؤسسات الدولة وأضعفتها، وتغوّل فيها السلاح المنفلت، واُنتهكت بسببها سيادة البلاد، وفُسح المجال للآخرين للتلاعب بقرارها الوطني، وارتفعت معدلات البطالة، وانحدرت مستويات المعيشة لربع العراقيين إلى ما دون خط الفقر، وغابت السياسات التنموية، واعتمدت خططٌ لخصخصة الخدمات الأساسية الضامنة لحياة كريمة، كالتعليم والصحة والنقل والطاقة، وتعمّقت أزمة الاقتصاد الريعي، وارتهن الأمن الغذائي للاستيراد، وانقسم المجتمع عموديًا بين أكثرية مقهورة محرومة، وأقلية فاسدة مهيمنة على السلطة والثروة.

ولم أجد، وأنا أُمعن النظر في تفاصيل المناقشات بين الفريقين، خلافًا في تبنيهما لمختلف أساليب الكفاح، بدءًا من الاحتجاجات المطلبية، وتوعية المقهورين بمصالحهم وتعبئتهم للعمل من أجل انتزاعها، وتفعيل النقابات، والتصدي لكل محاولات القمع ومصادرة الحقوق، وانتهاءً بإطلاق حراكات شعبية وانتفاضات تزيح عتمة الكابوس. كما لم يستبعد الفريقان البرلمانَ، ومجالس المحافظات، ومنظمات المجتمع المدني، من أن تكون ساحاتٍ مفتوحةً للصراع الطبقي، مع إدراك عام بأن الطريق نحو التغيير الشامل لن يمر عبر هذه الساحات فقط، فيما سنفقد الكثير إن أغفلنا استثمارها.

وإذ لا أجد نفسي، على ضوء ذلك، مختلفًا مع كل الداعين إلى مقاطعة الطغمة الفاسدة المستبدة وعزلها شعبيًا، أرى في العزوف عن التصويت تناقضًا مع هذه المقاطعة، لأنه يساهم ببساطة، وإن بشكل غير مقصود، في بقاء هذه الطغمة، التي سنّت قانونًا يمنحها الشرعية الانتخابية، حتى لو شارك ناخب واحد فقط.

فيما سيشكّل التصويت لمشروع التغيير تعزيزًا لتلك المقاطعة، ويحجب الأصوات لا عن المتنفذين فحسب، بل عن نسخهم البائسة التي تحاول إيهام الناس بادعاءات زائفة.

إن التصويت لمرشحي الحزب الشيوعي العراقي، أصحاب المشروع الشامل للتغيير، هو استثناء من المقاطعة، تتطلبه الحاجة لإنجاحها، وهو تصحيح لعزوفٍ أطال في عمر الأوليغارشية ومنحها نفوذًا أكبر، وهو أيضًا انتباهة واعية يتجنب بها الناخبون منح الثقة للفاسدين والفاشلين، دون أن يمتنعوا عن المساهمة في اختيار البديل الذي يُحقّق الوطن ـ الحلم.

فلنقاطع منظومة المحاصصة عبر مشاركتنا في الانتخابات، ومنح أصواتنا للأيادي البيضاء، للشيوعيين، بديلًا عن أيادٍ اسودّت من السحت ومما سفكت من دماء.