ما أن حاولت الناصريةُ أن تتنفّس فعلاً فنياً بسيطاً، حتى خرجت مجموعةٌ رافعةً رايةَ التحريمِ، وكأنها حامٍ لقيمِ المجتمعِ مُنصّبٌ من السماءِ. الغريبُ أن هؤلاء أنفسَهم لا يُسمع لهم صوتٌ حين يتعلّق الأمرُ بالفسادِ الإداريِ والماليِ المستشري في المحافظةِ، أو بانهيارِ الخدماتِ فيها، أو بتدهورِ بناها التحتيةِ، أو بآفةِ الفقرِ والبطالةِ التي ابتلعَت أكثرَ شبابِها، لكنّ حفلاً غنائياً بسيطاً، كان كافياً لإيقاظِ تلك الغيرةِ الأخلاقيةِ المفاجئةِ!
الأغربُ من ذلك كان موقفُ الحكومةِ المحليةِ نفسِها. فبيانُ المكتبِ الإعلامي للمحافظةِ، بدا وكأنه يعتذر عمّا حصل، وينفي أيَ صلةٍ لها بالفعاليةِ، رغم انها أقيمت بحضورٍ رسميٍ لشخصياتٍ من مجلسِ المحافظةِ، وممثل عن رئيسِ الوزراءِ، وأطراف من الأمانةِ العامةِ لمجلسِ الوزراءِ. كيف يمكن لجهةٍ رسميةٍ أن تتبرّأ من حدثٍ حضره ممثلون عنها؟ وكيف يمكن لبيانٍ واحدٍ أن يجمعَ بين التبرؤ من الفعالية وتأكيد "حرص الحكومةِ على توفيرِ بيئةٍ جاذبةٍ للاستثمار"؟!
هذه الازدواجيةُ ليست جديدةً، لكنها هنا تكشفُ هشاشةَ الموقفِ الرسمي، حين يتعلّق الأمرُ بضغوطِ فئةٍ صغيرةٍ من المجتمع، تتعاملُ مع المدينةِ وكأنها ملكٌ شخصي لها، ثم كأن أمزجةَ أهاليها خاضعةٌ لوصايتِها!
الناصريةُ مهدُ الحضارةِ السومريةِ، مدينةُ الأثرِ والكتابةِ الأولى، وفضاءٌ مفتوحٌ للثقافةِ منذ آلاف السنين. ومن غير المنطقي أن تُختَطف قراراتُها العامّة لمجردِ أن بضعةَ أصواتٍ تزعم ان في الموسيقى والغناء خطرا على الأخلاقِ!
إن جوهرَ الديمقراطيةِ، حين تكون ديمقراطيةً حقا، هو حمايةُ حقوقِ الأقليةِ قبلَ الأكثريةِ. لكنّ ذلك لا يعني أن أقليةً متطرفة يمكن أن تتحولَ إلى سلطةٍ رقابةٍ على المجتمعِ كلِه. ما جرى يضع تحدياً أمام الجميعِ: هل تستطيع الناصريةُ أن تحافظَ على حقِها في الفرحِ والثقافةِ والحياةِ الطبيعية، أم تظلُ أسيرةَ ابتزازٍ أخلاقيٍ عابرٍ قد يكون مبطّناً بغايةِ جذب الأضواءِ؟!
الحفل أُقيم في النهايةِ. وربما هذه هي الإشارةُ الوحيدة التي تستحق الالتقاط: ان المجتمع، رغم كلِ شيء، لم يعد يقبَل أن تُصادرَ حياتُه العامةُ تحت مسمى الفضيلةِ. وان الزمنَ يتغيّر، حتى لو حاول البعضُ إيقافَ حركته بالزعيقِ!