في خريف عام 1968، تركت مدينتي الصغيرة وجئتُ إلى بغداد للدراسة. كان البعثيون قد تسلّلوا خلسةً إلى السلطة قبل أسابيع، محاولين حجب تاريخهم المخزي بشعاراتٍ برّاقة. وكانت الثانوية المركزية تعجّ بنشطاءَ عديدين. خصالٌ بطعم الوفاء وببهاءُ التناغم العراقي دفعتني للاقتراب من الطلبة الشيوعيين. أحدهم طلب مني ذات يوم دعمًا لنقابةٍ أضرب عمالها، فأغرقهم البعثيون بالدم. كانت تلك نقابة عمال الزيوت النباتية، التي تمرّ هذه الأيام الذكرى 57 لإضرابها الباسل.
ارتبكتُ قليلًا؛ فلم أكن قد تعلّمت بعد كيف يمكن لشابٍّ صغيرٍ أن يقتطع من قوته اليومي ليساند أحدًا لا يعرفه. صاحبي الذي عرّفني بدور النقابات في الارتقاء بالوطن، لم يبدّد حيرتي فحسب، بل وأبلغني أيضًا بأن لنا نحن الطلبة نقابةً. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى نلتُ شرف عضوية اتحاد الطلبة، الذي سيبقى نبضُ الانتماء إليه ساريًا في دمي ما حييت.
في الدراسات، نقرأ بأن اكتشاف ماركس لأهمية النقابات كمراكز لتنظيم الشغيلة وتربيتها طبقيًا، هو أحد أوجه عبقريته، حين رأى أن مجتمعًا يضع وسائل الإنتاج بمواجهة القوى الحيّة المنتجة لا يمكن أن يشهد اتفاقًا عادلًا بين العمل ورأس المال، بل صراعًا يواجه فيه الرأسمال، كقوة اجتماعية مركَّزة، العمالَ الذين تضعف قوتهم جراء التنافس فيما بينهم، فتأتي النقاباتُ لتقلص ذلك التنافس أو لتلغيه. ولم يكتفِ ماركس بذلك، بل أكّد أن نضال النقابات ينبغي أن لا ينحصر في الصراع الاقتصادي، بل أن يمتدّ إلى مهاجمة النظام الطبقي برمّته؛ فمهمتها في تحقيق أعلى أجرٍ ممكن، وبيئةٍ وظروفِ عملٍ لائقة، تتناقض بالضرورة مع هدف الرأسمالي في تحقيق أقصى ربحٍ ممكن، وسيؤدي هذا التناقض إلى صراعٍ يمهّد لإلغاء نظام العمل المأجور نفسه.
وفي بلادنا، التي عرفت العمل النقابي منذ نشأتها كدولةٍ حديثة، نجح الطغاة، بالقمع والمكر، في سرقة النقابات وإفراغها من دورها، حتى تآكلت الحقوق، وتقلّصت الثقة، وتناقصت العضوية، ووَهَنت السواعد، وتبدّد النفوذ، وتراجع الوعي بمخاطر اليمين، وحتى أصبح التصدي لهذا الواقع المرير من أبرز مهام اليسار، الذي بات على مناضليه تبوء مواقعهم في ميادين العمل، والتتلمذ على يد الشغيلة، والاستماع لمشاكلها، ونيل ثقتها، والتعاون معها للوصول إلى غد الخلاص. كما صار لزاماً عليهم أن يكونوا مصدرًا أمينًا للتنوير والمعرفة، ويتصدوا للتجهيل ولأفكار الفردانية والقدرية والتعصب الطائفي والقومي التي يبثها اليمين، وان يوفّروا القناعة بدور النضال النقابي، وأن يعملوا على إشاعة الحياة الديمقراطية بصفوف النقابات، وتخليصها من البيروقراطية التي تقلص قدرتها على استقطاب الكفاءات.
وإذ ما زال التمسك بالمطالب الكلاسيكية، كتحديد ساعات العمل ورفع الأجور، من صلب مهام النقابات، فإنها لم تعد سقف الطموح، إذ ينبغي تشخيص الاحتياجات التي يفرضها سير التطور الحضاري؛ فما كان مكسبًا كبيرًا فيما مضى لم يعد كذلك اليوم. كما تأتي في مقدمة الأولويات، مهمة توعية النقابيين، عمالاً ومهنيين، بترابط الحقوق مع ما يجري خارج مواقع العمل من نشاطٍ سياسيٍّ. ومن المفيد الإشارة أيضاً إلى حاجة اليسار لجذب الشبيبة "الراديكالية" إلى ساحات النضال النقابي، وتخليصها من العوالم الافتراضية التي خلقت فيها بيئةً سامية لأحلامها بالحرية والعدالة.
إن ذكرى الإضرابات العمالية وشهدائها الأماجد، لا تدعونا لدراسة واقع حركتنا النقابية واتحاداتنا المهنية فحسب، بل وإلى إطلاق حملةٍ واسعةٍ من أجل أن تستعيد مواقعها، وتتحوّل لمؤسساتٍ جماهيريةٍ متاحةٍ للجميع، قادرةٍ على الدفاع عن رفاهية وحقوق أعضائها، وعلى أن تلعب دورها في خلاص عراقنا من الأوليغارشية الحاكمة.