اخر الاخبار

في مشهد سياسي تتآكل فيه قواعد الحكم، وتضيع فيه بوصلة السلطة، يظهر خلل خطير في أهم منصب في الدولة: منصب رئيس الوزراء، الذي يجري التعامل معه بطريقة تهدم معناه الدستوري من الأساس.

يُفتح باب الترشيح لرئاسة الوزراء، وكأن المنصب "وظيفة شاغرة" تُعلَن في لوحة إعلانات. وتُرفع سير ذاتية، وتُجرى مقابلات .. في ما لا يشكل خللاً إجرائياً، بل تفريغٌ منهجي لموقع رئيس الوزراء من معناه الدستوري.

نحن أمام عملية قضم بطيء لمفاصل الدولة، حيث تتراجع الأدوار الحقيقية وتتحول المناصب العليا إلى مواقع بلا معنى، في حين يُدار اتخاذ القرار خلف الستار. ولعل أكثر ما يكشف عمق الأزمة، الصراع داخل الإطار التنسيقي نفسه، حيث تدور المعركة بين اطرافه وليس ضد خصومه. صراع حول حجم الحصة من "الكعكة"، لا على برنامج حكم.

وليست خافية على أحد الغاية من تحويل منصب رئيس الوزراء إلى "مدير عام"، في مشهد يعيد التذكير بنماذج الأنظمة الدكتاتورية، حين كان الحاكم يحوّل رئيس الوزراء إلى واجهة بلا قرار. وهكذا يصبح المنصب محاطاً بقيود غير مكتوبة، وتابعاً لتوازنات القوى لا لصندوق الاقتراع.

هذا التشوّه في قمة السلطة التنفيذية انعكس على باقي مؤسسات الدولة. فموقع رئاسة الجمهورية تراجع هو الآخر إلى دور بروتوكولي محض: استقبال وفود، توديع سفراء، مع غياب شبه كامل للصلاحيات الدستورية التي رُكنت على الرف. فالموقع الذي صُمّم ليكون ضابط توازن، صار أقرب إلى "مدير مراسم"، جزءاً من الصورة لا من صناعة القرار.

أما مجلس النواب فقصته أوضح تعبيراً عن الانهيار المقنّع. فتقارير الرصد البرلماني تشير بوضوح إلى تلاشي دوره التشريعي واختفاء دوره الرقابي: لا استجوابات، لا مساءلة، ولا لجان فاعلة. تحوّل البرلمان من سلطة رقابية إلى قاعة تُدار من خارجها، تحت تأثير قوى لا تخضع لأي عملية انتخابية.

وإذا كان هذا هو حال الرئاسات الثلاث، فإن الصورة الأوسع تكشف ما هو أخطر: انسحاب الدولة أمام تقدّم الطغمة. فهذا المسار لا يمكن تفسيره إلا باعتباره إضعافاً متعمداً لسلطات الدولة، وترك العراق نهباً لبنية موازية تتحكم بمصيره خارج الدستور، لطغمة تلتهم الصلاحيات، وتعيد توزيع القوة بما ينسجم مع شبكاتها لا مع إرادة الناخبين. ومع هذا الانحراف تتوسع الممارسات القمعية: ملاحقة الناشطين، وتقديم الشكاوى ضد أصحاب الرأي، كوسائل ضغط وإكراه، في مسعى واضح لمصادرة حرية التعبير وتجفيف المجال العام.

لم تعد الأزمة في العراق في جوهرها أزمة حكومات تتعاقب أو انتخابات تتكرر، وانما هي أزمة نظام تُفرغه الطغمة من مضمونه يوماً بعد يوم، حتى باتت الدولة هي الشاغر الحقيقي، لا منصب رئيس الوزراء.

وما لم تُستعاد سلطة القانون، وتُعاد الهيبة للمؤسسات، سيظل العراق يُدار بمنطق الظلّ، فيما تبقى المواقع الدستورية مجرد ديكور لسلطة لا يراها الناس إلا حين تمارس قبضتها، ولا يشعرون بها إلا عندما تغيب الدولة.