يوما بعد يوم تتعدد وتتنوع الوسائل والأساليب التي تقلص الهامش الديمقراطي المتحقق بعد ٢٠٠٣ ، حيث باتت الحريات العامة والشخصية ، ومنها حرية التعبير، تواجه ضغوطا متزايدة، تتخذ اشكالا سياسية وقانونية واجتماعية ويمنحها البعض بعدا دينيا أيضا.
وتاتي هذه الممارسات رغم ان الدستور العراقي يضمن حق المواطن في ممارسة العديد من الحريات والحقوق ، ومنها حق النقد والاعتراض على ممارسات وإجراءات السلطات على اختلاف أنواعها.
تحمل الينا التقارير المحلية والدولية المزيد من الزيادات في عديد "المحرمات" و "المحظورات" التي تتعدد اشكالها وتتتنوع، ومنها ما يحصل ارتباطا بالسلاح المنفلت. وهذه الممارسات تجعل من موضوعة تراجع الحريات والتضييق عليها، امرا لا يمكن تجاهله او اعتباره حدثا عابرا.
واعادت الوثيقة التي نُشرت وذُكر انها صادرة عن مجلس القضاء الأعلى، الجدل من جديد الى الواجهة حول الحريات، ومدى توفر الضمانات لممارستها. ورغم ان المجلس أوضح لاحقا ملابسات هذه الوثيقة وما تضمنته من موقف يفيد بملاحقة من ينتقد النظام السياسي، ومؤكدا التزامه بضمان الحقوق الدستورية، الا ان ما اثارته من ردود فعل يعكس حساسية هذه القضية ، واهمية تصدي الرأي العام بمختلف تلاوينه لمثل هذه المحاولات،/ حتى وان كان يشم منها رائحة جس النبض وقياس ردود الفعل.
كذلك كشف ما حصل مدى القلق العام من اية خطوة، توحي او تُفسّر على انها تقييد للفضاء العام، وهذا غير بعيد عن ممارسات السلطات الراهنة في الامس القريب، وميلها الى استخدام ترسانة القوانين الموروثة من النظام المقبورُ واللجوء الى الدعاوي والمحاكم لفرض حدود جديدة على ممارسة الحريات، عبر التحريض والدعاوى الكيدية والتلفيق، او ما له صله بما يسمى " المحتوى الهابط " .
هذه الممارسات وغيرها، ومنها اللجوء الى العنف والافراط في استخدامه، واضح انها تريد توجيه رسالة، هدفها تشديد الحذر والخشية، ورفع منسوب الخوف والتردد، وصولا الى تكميم مطبق للافواه.
وان التضييق الجاري اليوم لا يتعدى فقط على حرية التعبير بمعناها السياسي المباشر، بل ويمتد ليشمل أنماطا من الحياة الثقافية والاجتماعية، حيث تزداد المخاوف من فرض ضوابط قيمية معينة، وتنميط حياة الناس وسلوكها. وتُفرض هذه أحيانا باسم العادات، واحيانا باسم الدين، وفي الثالثة بما يمكن تسميته "حرمة المدن "، والتي تتسع كل يوم لمدن جديدة، من دون إدراك لوجود دوافع حقيقية. ومثال ذلك مسالة الحفلات الغنائية التي منعت أخيرا في ذي قار والبصرة، وقبلها في مدن أخرى، وما يعكس توسعا غير مسبوق في مساحة المحرمات الثقافية والاجتماعية. ولذا فطبيعي ان يكبر التساؤل بشان حدود المسموح والمحرم، وما يشمله كل منهما، ومن يمتلك حقا الصلاحية الدستورية لتعيين الحدود المذكورة ؟!
هذا كله وغيره يجري في بلد، يتميز بالتنوع والتعدد على اكثر من صعيد، بما في ذلك الثقافي والاجتماعي والديني، وما يستعيره ذلك من مساحات للتسامح والاحترام لمشاعر الآخرين وعاداتهم وتقاليدهم.
واللافت ان مثل هذه الممارسات المقيدة للحريات، تجري في أجواء سياسية محتقنة، وتتداخل فيها مختلف الاهواء والامزجة والمواقف والحسابات الشخصية والضيقة، وما يُغلَّف ويقدم على انه عام ويخص المجتمع باسره، ما يجعل المواطن يخضع كل يوم لتاويلات جديدة متغيرة، ومنها ما يخضع للمزايدات بين القوى والجهات المختلفة.
وإذ يدفع البعض الأمور ذات الصلة بالحريات العامة الى حافات حادة، فان الدفاع عنها في بلدنا لم يعد مجرد موقف فكري لهذا الفرد او ذاك، اولهذه المجموعة او تلك، بل غدا ضرورة لحماية الفرد والمجتمع في آن.
ويقينا ان دولة ذات مؤسسات مختلفة، تسعى لتضييق الفضاءات وفرض أنماط معينة من السلوك والعادات، انما تتوجه نحو فجوة وهوّة بينها وبين مواطنيها.
وواهم من يعتقد ان الاستقرار يمكن ان يتحقق في مثل هذه الظروف.