اخر الاخبار

لا أحد ينكر أن الدولة العراقية، خلال هذه السنوات، بذلت جهوداً مميزة في تطوير البنى التحتية للعاصمة عبر إنشاء جسور ومجسرات جديدة، وإعادة تنظيم مسارات بعض الطرق الرئيسة لتخفيف الضغط المروري. وهي إنجازات لا بد من الإشارة إليها، بل ويعتد بها، لأنها تسهم – ولو جزئياً – في تيسير حركة التنقل داخل مدينة يقطنها الملايين وتغص يومياً بالمركبات.

لكن، وبرغم كل ما يتم إنجازه، تبقى الأزمة على حالها، بل وتتصاعد أحياناً لتتحول إلى كابوس يومي يعيشه المواطن البغدادي. فالمشكلة لم تحل جذرياً، لأن أحد أهم مسبباتها ما يزال قائماً: السماح للشاحنات الثقيلة بالدخول إلى قلب العاصمة وكأنها سيارات أجرة، إلى جانب غياب التخطيط لإنشاء طرق حولية تحيط ببغداد لامتصاص حركة السيارات القادمة من محافظات الجنوب باتجاه الشمال، أو بالعكس. هذه الفجوة التخطيطية تجعل بغداد ملتقى قسرياً لكل مركبة عابرة، فيزيد الزخم، وتتضاعف الاختناقات، وتبقى المدينة تدفع ثمن عجز إداري ورؤية مرورية محدودة.

حيث تشهد العاصمة بغداد منذ سنوات طويلة أزمة متفاقمة في طرقها الداخلية وشوارعها الرئيسة، حيث تحولت معظمها إلى مساحات مثقلة بالحفر والتخسفات والانكسارات، ما جعل حركة السير بطيئة ومعقدة. ولعل أبرز أسباب هذا التدهور هو السماح – أو التغاضي – عن دخول الشاحنات الكبيرة (تريلات الحمل) إلى قلب العاصمة، في الوقت الذي يُفترض أن تمنع من المرور في شوارعها الداخلية.

إن دخول هذه المركبات العملاقة إلى شوارع بغداد يترك آثاراً سلبية متعددة، يمكن تلخيصها في النقاط الآتية:

أولاً.. تخريب البنى التحتية: الوزن الهائل لهذه الشاحنات يؤدي إلى تدمير طبقات التبليط بسرعة، وتهشم الشوارع، وتصدع شبكات الصرف الصحي، مما يفاقم مشاكل المجاري.

ثانياً.. عرقلة السير والازدحامات: إن حجم الشاحنات الضخم يجعلها غير مناسبة للشوارع الداخلية الضيقة والمزدحمة أساساً، الأمر الذي يضاعف أوقات الانتظار ويزيد من حالات الاختناق المروري في شوارع العاصمة. ولا يقتصر الأمر على الشاحنات وحدها، فحتى السيارات والباصات القادمة من جنوب العراق والمتوجهة إلى شماله، وكذلك المركبات القادمة من الشمال والمتجهة إلى الجنوب، كلها تضطر لاختراق بغداد يومياً، مسببةً أزمات مرورية خانقة واختناقات لا مبرر لها، كان من الممكن تجنبها بوجود طرق بديلة خارج العاصمة.

ثالثاً.. المخاطر الأمنية والمرورية: تواجد الشاحنات الكبيرة في طرق غير مهيأة يشكل خطراً على سائقي المركبات الصغيرة والمشاة على حد سواء، إذ تزداد نسبة الحوادث المميتة.

رابعاً.. الأضرار الاقتصادية: إن تدمير الشوارع المستمر يفرض على الدولة صيانة متكررة تكلف المليارات، فضلاً عن الخسائر التي تلحق بالتجار والمواطنين جراء التأخير والازدحام.

من الغريب أن تقف الجهات الحكومية ذات العلاقة – من الحكومة المحلية للعاصمة بغداد وأمانة بغداد، إلى مديرية المرور العامة، وحتى السيطرات الأمنية – موقف المتفرج، وكأن الأمر لا يعنيها. فالمتابع العادي أصبح يدرك جيداً أن هذه المشكلة لم تعد وليدة اليوم، وإنما هي تراكم سنوات من الإهمال وغياب الرؤية التخطيطية. إن استمرار السماح لهذه الشاحنات بعبور بغداد يكشف عن ضعف في تطبيق القانون وغياب التنسيق بين مؤسسات الدولة، وهو ما يطرح تساؤلاً مشروعاً: لماذا تتجاهل السلطات هذه الكارثة اليومية!؟

إن حل هذه الأزمة ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى قرار جاد وإرادة سياسية واضحة. وأبرز الحلول العملية يمكن أن تكون:

أولاً.. إنشاء موانئ برية في شمال وجنوب بغداد، بحيث تكون محطات نهائية للشاحنات الثقيلة القادمة من المحافظات الى بغداد.

 إن هذه الموانئ ينبغي أن تحتوي على مخازن حديثة، وغرف تبريد، وميزان دقيق، وخدمات فنية وصحية كفيلة بخزن وتوزيع البضائع. ومن هناك، يجري نقل الحمولة إلى داخل العاصمة بواسطة شاحنات صغيرة ومتوسطة الحجم، تتناسب مع قدرة شوارع بغداد.

ثانياً.. تشييد شبكة شوارع حولية (طرق دائرية خارجية) تحيط بالعاصمة من جهاتها الأربع، بحيث تعبر الشاحنات وباصات النقل القادمة من محافظات الشمال إلى محافظات الجنوب أو بالعكس دون الحاجة إلى دخول بغداد أصلاً.

ومن الضروري ايضاً وجود أكثر من طريق حولي الامر الذي سيؤدي الى تخفيف الزخم، وتأمين انسيابية أكبر لحركة المرور. وهذا الإجراء معمول به في معظم عواصم العالم وحتى في بعض محافظات العراق التي أدركت حجم هذه الكوارث وكانت تواجه نفس التحدي.

إن بقاء الحال على ما هو عليه يعني المزيد من الخراب لشوارع بغداد، والمزيد من الأزمات اليومية للمواطنين، والمزيد من الهدر في المال العام. إن الحكومة المحلية للعاصمة بغداد ومديرية المرور العامة وأمانة بغداد، كل بحسب مسؤوليته، مطالبة بتحمل واجبها الوطني والأخلاقي، عبر منع دخول الشاحنات إلى العاصمة بشكل قاطع، وتبني حلول استراتيجية جذرية، بدلاً من مسكنات مؤقتة لا تجدي نفعاً.

إن مدينة بغداد، بما تحمله من رمزية وتاريخ، تستحق أن تكون عاصمة لائقة، وشوارعها يجب أن تكون صورة تعكس هيبة الدولة لا شاهداً على عجزها.