مع الارتفاع القياسي لأسعار الذهب عالمياً، يعيش السوق العراقي واحدة من أكثر مراحله اضطراباً، حيث تتقاطع المضاربات والفساد وضعف الرقابة الحكومية في رسم ملامح مشهد اقتصادي غير منضبط. فبينما يعزو الخبراء الارتفاع إلى عوامل عالمية بحتة، تكشف حركة السوق المحلية هشاشة البنية الاقتصادية، واتساع نفوذ الاقتصاد الموازي الذي حوّل الذهب من سلعة ادخارية واستثمارية إلى أداة لإخفاء الأموال غير المشروعة.
وفي ظل غياب الرقابة الصارمة وارتباك السياسات النقدية، أصبح الذهب مرآة تعكس عمق الأزمات المالية، وتراجع الثقة بالدينار، وتنامي سطوة المصالح الخاصة على حساب استقرار السوق الوطني، ما يجعل ملف الذهب اختباراً جديداً لقدرة الدولة على ضبط الأسواق وإعادة هيكلة النظام المالي المترهل.
أسباب الارتفاع!
وسط تقلبات الأسواق العالمية، يواصل الذهب تسجيل ارتفاعات متتالية دفعت العديد من المستثمرين إلى إعادة النظر في استراتيجياتهم المالية.
الباحث الاقتصادي حسنين تحسين وصف الوضع الحالي بأنه "تأثر عالمي خالص، لا دخل للعراق فيه، فالعراقي يتأثر فقط بما يحدث في العالم مثل باقي الدول".
وأشار تحسين في حديث لـ"طريق الشعب"، إلى أن موجة ارتفاع أسعار الذهب بدأت بعد جائحة كورونا، واستمرت نتيجة سلسلة من الأزمات العالمية، بما في ذلك الحرب الروسية - الأوكرانية، التي دفعت المستثمرين إلى اللجوء إلى الذهب كملاذ آمن.
وأضاف انه "كلما واجه العالم صراعات أو أزمات، يلجأ أصحاب المال إلى الذهب كخيار آمن لحماية استثماراتهم"، مبينا أن السياسة النقدية الأمريكية لعبت دوراً في دفع أسعار الذهب نحو الأعلى.
وتابع ان خفض أسعار الفائدة من قبل البنك الفيدرالي الأمريكي، يعتبر إشارة للمستثمرين بأن الذهب سيكون استثمارا آمنا، وبالتالي زيادة عمليات الشراء، مضيفا أن الصين كانت من أبرز الجهات التي دفعت بأسعار الذهب للارتفاع، من خلال عمليات شراء ضخمة بهدف التحرر من سيطرة الدولار الأمريكي، والاعتماد على الذهب كغطاء أساسي للعملة.
وأوضح أن كمية الذهب المتاحة حالياً تمثل نحو 78 في المائة من الذهب العالمي المستخرج، مما يزيد من ندرة المعدن الثمين ويعزز توقعات استمرار ارتفاع أسعاره في المستقبل.
وعن تأثير هذه الارتفاعات على العراق، شدد تحسين على أن البلاد متأثرة فقط، وليس لها القدرة على التأثير في السوق العالمي، مشيرا الى أن استخدام الذهب في العراق يقتصر على الصياغة والمجوهرات، وليس له دور كبير في الصناعات الكبرى، ما يجعل تأثير الأسعار عالمياً على الاقتصاد المحلي محدوداً.
وتطرق تحسين إلى سياسات الحكومة الممكنة لمواجهة تقلبات الذهب، مؤكداً أهمية تعزيز الاحتياطيات المالية، سواء بالذهب أو بالفضة التي تشهد ارتفاعاً عالمياً أيضاً، وتأتي في المرتبة الثانية بعد الذهب من حيث أهميتها الاستثمارية والصناعية.
واضاف أن هناك استغلالاً محتملاً لسوق الذهب والفضة في العراق، مثل عمليات غسيل الأموال، لكنه شدد على أن ارتفاع الأسعار الحالي مرتبط بالأوضاع العالمية وليس بسلوكيات محلية.
هشاشة البنية الاقتصادية!
يقول الباحث عبدالله نجم إن "الوضع الحالي لسوق الذهب في العراق يعكس هشاشة البنية الاقتصادية وغياب أدوات الدولة للتحكم بأسعار السلع الاستراتيجية. الاقتصاد العراقي يعتمد بشكل كامل على الاستيراد، وغياب الإنتاج المحلي يجعل السوق المحلية عرضة لتقلبات الأسعار دون أي قدرة حقيقية للحكومة على ضبطها".
ويضيف نجم لـ"طريق الشعب"، أن "المواطن العراقي يلجأ إلى شراء الذهب كوسيلة للحفاظ على قيمة أمواله نتيجة تراجع الثقة بالدينار وتذبذب سعر الصرف، ما يزيد الطلب على الذهب ويغذي المضاربات العشوائية، في وقت يفتقد فيه السوق أي رقابة فعالة من البنك المركزي أو الجهات المختصة".
ويشير نجم إلى أن "سوق الذهب اليوم أصبح أداة لإعادة تدوير الأموال غير المشروعة، حيث يُخفى مصدر الأموال تحت مظلة التعاملات القانونية، وهو ما يشكل مثالاً واضحاً لتداخل الاقتصاد الرسمي مع الاقتصاد الموازي. هذا التداخل يساهم في تعميق الفساد، إذ تستخدم بعض الجهات موارد مالية غير قانونية لبناء نفوذ اجتماعي وسياسي، عبر إنشاء شركات وهمية أو تمويل فعاليات ثقافية وخيرية تمنحها صورة قانونية واجتماعية مقبولة".
ويؤكد نجم أن "الاستمرار في هذا الوضع يؤدي إلى فقدان الثقة بالعملة الوطنية ويجعل الذهب عملة بديلة خارج النظام المصرفي، ما يقلص قدرة البنك المركزي على إدارة السيولة ويزيد من مخاطر الضغوط المالية على الدولة. لذلك، فإن معالجة الأزمة تتطلب رقابة صارمة على تجارة الذهب وربطها بنظام تتبع مالي موحد يشرف عليه البنك المركزي وهيئة مكافحة غسل الأموال، مع سياسات نقدية مرنة توازن بين الاستقرار المالي وحماية السوق المحلي من المضاربات والشبكات غير القانونية".
ويختم نجم تصريحاته بالقول: "إعادة السيطرة على سوق الذهب ليست مجرد قضية أسعار، بل اختبار حقيقي لقدرة الدولة على إعادة الانضباط للنظام المالي، ومنع تحوّل الثروة إلى أداة نفوذ، وضمان أن الاقتصاد يعمل وفق قواعد شفافة وعادلة، بعيداً عن سيطرة المصالح الخاصة والاقتصاد الموازي".
أداة لغسل الاموال غير المشروعة
فيما يقول الناشط السياسي علي القيسي، إن "الاقتصاد الموازي يؤثر بشكل كبير على سوق الذهب في العراق، كونه حوّل هذه السلعة إلى أداة لإعادة تدوير الأموال غير المشروعة، بما يتيح للجهات المستفيدة التحرك بحرية خارج الرقابة القانونية. السوق لم يعد مجرد وسيلة للادخار أو الاستثمار، بل أصبح منصة لإخفاء الأموال ومصادرها، ما يفاقم المضاربات ويدفع الأسعار إلى مستويات غير طبيعية".
ويضيف القيسي لـ"طريق الشعب"، أن "الفساد وتبييض الأموال يمثلان تهديدًا مباشرًا لاستقرار الاقتصاد الوطني، لأنهما يحولان الموارد المالية من أدوات إنتاجية حقيقية إلى أدوات نفوذ وسيطرة. الجهات التي تمتلك أموالاً غير قانونية تستخدمها لتوسيع نفوذها السياسي والاجتماعي، عبر إنشاء شركات وهمية أو تمويل أنشطة ثقافية وخيرية تمنحها صورة قانونية واجتماعية مقبولة، وهذا يضعف الثقة بالمؤسسات الرسمية ويزيد من هشاشة النظام المالي".
ويشير القيسي إلى أن "مواجهة هذه الأزمة تتطلب إجراءات رقابية وقانونية صارمة، تشمل إنشاء نظام تتبع مالي موحد يشرف عليه البنك المركزي وهيئة مكافحة غسل الأموال، وفرض الشفافية الكاملة على تجارة الذهب والمصارف التجارية. كما يجب أن تُصاحب هذه الإجراءات سياسات نقدية مرنة تحمي الاقتصاد المحلي من المضاربات، وتعيد الثقة بالدينار، وتضمن أن الذهب لا يصبح وسيلة لتبييض الأموال أو لتغذية الاقتصاد الموازي".
ويختم القيسي تصريحاته بالقول: "إن استعادة السيطرة على سوق الذهب ليست فقط مسألة اقتصادية، بل اختبار حقيقي لقدرة الدولة على حماية مواطنيها، وإعادة الانضباط للنظام المالي، وضمان أن الاقتصاد الوطني يعمل وفق قواعد شفافة وعادلة بعيداً عن نفوذ المصالح الخاصة والفساد المستشري".