بغداد- طريق الشعب
لم تمض أيام قليلة حتى شهد العراق حادثين متتاليين، أعادا إلى الواجهة ملف السلامة المهنية، إذ لم تقتصر الخسائر على الأضرار المادية، بل امتدت لتطال أرواح العاملين في مواقع العمل. ففي كربلاء، أنقذت فرق الدفاع المدني أربعة عمال عقب انهيار سقف كان محملا بالتمور داخل مخزن في قضاء الحسينية شمال المدينة، وفق بيان رسمي صدر عن مديرية الدفاع المدني. وبحسب شهود عيان، فإن السقف انهار أثناء تحميل كميات كبيرة من التمور دون مراعاة شروط الأمان، ما أدى إلى إصابات متفاوتة بين العمال. الحادث كشف عن هشاشة البنى التحتية في العديد من المخازن الزراعية التي تعمل خارج الإشراف الحكومي ودون توفر أبسط إجراءات الوقاية.
يقول قاسم سلمان، وهو أحد العاملين في المخازن الزراعية بكربلاء: "نحن نعمل في بيئة خطرة، السقوف متهالكة والتهوية معدومة، ولا يوفر أصحاب المخازن خوذات أو أحذية واقية. نعمل فوق أكوام التمور من دون أي وسيلة أمان، وكل يوم نخشى أن يحدث ما جرى في الحسينية".
وفي الجنوب، نقلت وكالة رويترز عن مسؤولين في حقل الزبير النفطي بمحافظة البصرة أن عاملين لقيا مصرعهما وأصيب خمسة آخرون بجروح جراء حريق اندلع أثناء عملية لحام في خط أنابيب داخل الحقل، مؤكدين أن الإنتاج البالغ 400 ألف برميل يوميا لم يتأثر بالحادث.
وفيما كان المسؤولون فرحين بالسيطرة على الحريق، أكدت مصادر عمالية على إن وجود رقابة كافية وصارمة على تطبيق إجراءات السلامة أثناء عمليات الصيانة، كانت كافية للمحافظة على حياة الضحايا.
عمال: نواجه الخطر يوميا بلا معدات أو تدريب
يصف، عامل صيانة في أحد الحقول النفطية (فضل عدم ذكر اسمه)، ظروف العمل هناك بأنها "قاسية وخطرة"، قائلا: "نعمل في أغلب الأحيان بدون أجهزة كشف غاز أو معدات حماية. الشركات الأجنبية تضع تعليمات صارمة، لكن تنفيذها ضعيف لأن المشرفين المحليين يهتمون بسرعة الإنجاز أكثر من سلامة العاملين".
ويضيف بأسف "هناك الكثير من الحوادث من هدا النوع إلا ان نقلها في وسائل الاعلام او الالتفاف اليها قليل، الحوادث تتكرر، ولا أحد يحاسب. في النهاية يعطى تعويض بسيط وينتهي الأمر، وبعد أيام ينسى الحادث".
بدوره، يقول أبو سجاد، عامل بناء في بغداد لـ "طريق الشعب" إن "حوادث العمل صارت جزءا من يومنا. نسمع كل فترة عن عامل توفي إثر سقوطه من مرتفع أو صعقة كهربائية"، ويضيف أن "فرص العمل قليلة وهناك الكثير من الشباب العاطلين عن العمل فضلا عن منافسه العمالة الأجنبية غير القانونية. وحين نرفض العمل بسبب عدم توفير متطلبات السلامة، يتمكن صاحب العمل من الاستعانة بغيرنا، حيث لا توجد رقابة على مواقع العمل ولا أحد يعير أهمية لظروف العمال".
ضعف الوعي والرقابة يفاقمان الكارثة
وتؤكد الناشطة القانونية في مجال حقوق العمال سماح الطائي أن "القوانين النافدة الخاصة بسلامة العامل "تبقى حبرا على ورق"، موضحة " أغلب مؤسسات القطاع الخاص لا تلتزم بتوفير أدوات الوقاية أو التدريب اللازم، وهناك ضعف واضح في التفتيش من قبل وزارة العمل، وأحيانا تواطؤ بسبب الفساد الاداري".
وتشير إلى أن "ضعف الوعي بحقوق العمال يفاقم من حجم الخطر، قائلة إن "الكثير من العمال يجهلون أن من حقهم المطالبة ببيئة عمل آمنة، وبعضهم يخاف من فقدان وظيفته إذا ما احتج. لذلك تستمر الانتهاكات بصمت، وتتحول الحوادث إلى أرقام في تقارير رسمية لا تغير الواقع".
خبراء يدعون إلى تشديد القوانين وتدريب العمال
ويرى المهندس المختص في السلامة الصناعية اورد سعد أن الحل يبدأ من "فرض إجراءات إلزامية على الشركات والمصانع لإعداد برامج تدريبية دورية للعمال وأصحاب المشاريع على حد سواء"، مضيفا أن السلامة ليست ترفا، بل جزءا أساسيا من العملية الإنتاجية. أي حادث يؤدي إلى خسائر بشرية ومادية يؤثر في الإنتاج، لذلك يجب ربط منح الإجازات لأي مشروع بتطبيق نظام سلامة فعلي، وليس مجرد وثائق شكلية.
ويؤكد أن الحوادث الأخيرة، سواء في كربلاء أو البصرة "تظهر بوضوح أن البلاد بحاجة ماسة إلى استراتيجية وطنية للسلامة المهنية، تشمل التشريع والرقابة والتدريب".
ين الإهمال والمسؤولية المفقودة
وأخيرا، ما يتعرض له العمال من حوادث عمل تطرح تساؤلات جوهرية حول من يتحمل المسؤولية في ظل غياب المحاسبة وتراخي الرقابة الحكومية. فبين أصحاب العمل الذين يسعون لتقليل التكاليف على حساب الأمان، والجهات الرسمية التي لا تمارس دورها الرقابي كما يجب، يبقى العمال الحلقة الأضعف في معادلة الإنتاج.
وحتى الآن، لا تزال حياة مئات الآلاف من العمال معلقة بين إهمال القوانين وغياب الرقابة، فيما تتكرر الحوادث لتؤكد أن بيئة العمل في البلاد ما زالت بعيدة عن الحد الأدنى من معايير الأمان الدولية.