تتصاعد موجات التلوث في سماء بغداد بشكل لافت خلال الأيام الأخيرة، حيث تُشاهَد طبقات من الدخان والضباب الرمادي وهي تغطي أجزاء واسعة من المدينة، في مشهد يعكس تدهوراً خطيراً في جودة الهواء. ومع انتشار الروائح النفاذة وبقاء الملوثات عالقة قرب سطح الأرض، تزداد المخاوف من آثار صحية مباشرة تهدد الأطفال وكبار السن وسكان العاصمة عموماً، فيما تتواصل تحذيرات الخبراء من تفاقم الوضع في ظل غياب المعالجات الجذرية لمصادر التلوث.
مرصد بيئي يكشف عوامل التلوث
وأرجع مرصد "العراق الأخضر" البيئي أسباب التلوث المستمر إلى مجموعة من العوامل، أبرزها حرق النفايات المستمر والاستخدام الواسع للوقود الرديء في معامل الطابوق والأسفلت غير المرخصة بيئياً.
وقال عضو المرصد عمر عبد اللطيف لـ "طريق الشعب"، إن الرائحة الكريهة والتلوث في سماء بغداد ناتجان عن التماهل في محاسبة هذه المعامل، على الرغم من وجود تقارير وإشارات سابقة بضرورة إغلاق المشاريع المخالفة. وأضاف أن عمليات حرق النفايات لم تتوقف مطلقاً، وأن الجهات المعنية لم تُبدِ اهتماماً كافياً، مما أدى إلى تفاقم المشكلة خلال الفترة الأخيرة.
واضاف عبد اللطيف أن الظروف الجوية الحالية ساعدت على أن تصنف بغداد بين المدن الأعلى تلوثاً في العالم حسب مؤشرات“IQ AIR”، رغم أن ترتيب المدن في هذا المؤشر يتغير بشكل مستمر. وتوقع أن يستمر تفاقم الوضع خلال الأيام القادمة في حال بقاء السياسات الحالية، التي تقتصر على إصدار تعليمات للمواطنين بغلق الشبابيك وارتداء الكمامات، دون معالجة الأسباب الحقيقية للتلوث الصناعي.
وحذر من أن هواء بغداد أصبح محملاً بمواد خطرة تهدد الصحة العامة، مشيراً إلى أن العاصمة سجلت لأول مرة نسبة تلوث تصل إلى 515 في المائة، ما يضع سكانها أمام خطر صحي غير مسبوق.
معامل غير مرخصة
فيما قالت نجوان علي، ناشطة بيئية، إن التغيرات الأخيرة في درجات الحرارة وارتفاع الرطوبة وتغير مسار الرياح، خاصة خلال الليل، ساهمت في زيادة تراكيز الغازات والجسيمات العالقة في الهواء، مما يؤدي إلى احتباس الملوثات قرب سطح الأرض، ويجعل الروائح الكريهة أكثر وضوحاً وانتشاراً في أجواء العاصمة.
وأضافت علي لـ"طريق الشعب"، أن معامل الطابوق والأسفلت غير المرخصة بيئياً، والتي تعتمد على الوقود الثقيل مثل النفط الأسود، تعد من أبرز مصادر هذه الانبعاثات الضارة، مؤكدة أن استمرار هذه الأنشطة دون رقابة صارمة يجعل الأوضاع البيئية في بغداد مقلقة للغاية. وأشارت إلى أن تراكم الملوثات يشكل خطراً كبيراً على صحة السكان، لا سيما الأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي التحسس، محذرة من أن التلوث قد يصل إلى مستويات غير مسبوقة إذا استمرت الجهات المعنية في الاكتفاء بالإرشادات الوقائية للمواطنين دون معالجة المصادر الحقيقية للمشكلة.
ودعت علي الحكومة والجهات المعنية إلى فرض إجراءات صارمة لمحاسبة المشاريع المخالفة بيئياً، والحد من انبعاث الغازات والجسيمات الضارة، لضمان حماية صحة السكان والحفاظ على البيئة في العاصمة.
واحتلت العاصمة بغداد المرتبة الثانية عالميا بين المدن الأكثر تلوثاً بالهواء، وفق بيانات منصة IQAir السويسرية المتخصصة بمراقبة جودة الهواء، في تقرير صدر عن المنصة خلال شهر أيلول الماضي. وأظهر التقرير أن مؤشر جودة الهواء (AQI) في بغداد بلغ نحو 150 نقطة، وهو مستوى يُصنّف ضمن فئة. "غير صحي"، ما يضع سكان المدينة، لا سيما الأطفال وكبار السن والأشخاص المصابين بأمراض الجهاز التنفسي والقلب، في خطر مباشر على صحتهم.
وأشار التقرير إلى أن مستويات الجسيمات العالقة PM2.5 وPM10 تجاوزت الحدود الموصي بها من منظمة الصحة العالمية بنسبة تتراوح بين 60 و80 في المائة خلال الأيام الأخيرة، في حين ارتفعت تراكيز الغازات الضارة مثل أكسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكبريت بشكل ملحوظ بفعل الانبعاثات الصناعية وحرق النفايات.
طبقات الدخان تتجمع فوق دجلة
يقول احمد امير جبار، اختصاص الصحة العامة إن مشاهد الدخان المتصاعد فوق العاصمة باتت "علامة خطيرة على تدهور جودة الهواء"، مشيراً إلى أن ما يُرى بالعين المجرّدة من جسر الجادرية باتجاه مناطق الكرخ يوضح حجم الملوثات التي تغطي السماء في ساعات الصباح والمساء.
ويضيف جبار لـ"طريق الشعب"، أن "طبقات الدخان التي تتجمع فوق نهر دجلة وتمتد بمحاذاة الجادرية نحو المنصور والرحمانية والغزالية تشكّل مشهداً مقلقاً، حيث يمكن ملاحظة الضباب الرمادي الذي يهبط من أعلى المباني حتى يلامس الشوارع، في مؤشر على ارتفاع كثافة الجسيمات العالقة".
ويجد أن "هذا المنظر ليس مجرد دخان عابر، بل خليط من غازات سامة وجسيمات دقيقة مصدرها حرق النفايات ومعامل الطابوق والأسفلت، وهي مواد يمكن أن تتغلغل بسهولة إلى الجهاز التنفسي وتسبب التهابات حادة وأزمات ربوية، خصوصاً لدى كبار السن والأطفال". وأوضح أن استمرار ظهور هذه السحب يعني أن الهواء في تلك المناطق وصل إلى مستويات خطرة ينبغي التعامل معها كحالة طوارئ صحية.
ويشير إلى أن "تكرار المشاهد ذاتها في الأيام الأخيرة يعكس غياب أي إجراءات فعّالة لضبط مصادر التلوث، فالمشهد اليومي يكفي ليؤكد أن العاصمة تواجه أزمة تتطلب تدخلاً حكومياً عاجلاً يتجاوز الإرشادات إلى خطوات ميدانية توقف الانبعاثات وتحد من انتشار الملوثات". وختم قائلاً إن "الأجواء الحالية تُعد بيئة مثالية لانتقال الأمراض التنفسية، وأن السكان باتوا معرضين لخطر مباشر نتيجة هذا التلوث الذي أصبح مرئياً بوضوح ".
مخاطر صحية
من جهته، ذكر الباحث الدكتور سيف الكرعاوي، المختص في الإعلام البيئي، أن العاصمة بغداد شهدت ارتفاعاً مقلقاً في مستويات تلوث الهواء، بعد أن سجلت الجسيمات الدقيقة خلال الأيام الماضية PM2.5 قراءة بلغت 173 نقطة وفق مؤشر جودة الهواء الأمريكي (AQI)، وهي نسبة ضمن فئة "غير صحي".
وعن تداعيات ارتفاع التلوث، وأوضح الكرعاوي لـ"الطريق الشعب" انه يرتبط بزيادة واضحة في احتمالات تهيّج الجهاز التنفسي وارتفاع المخاطر الصحية، خصوصاً لدى كبار السن والحوامل ومرضى الربو والقلب، لافتاً إلى أن التراكيز الحالية تتجاوز الحد الإرشادي الذي حددته منظمة الصحة العالمية بنحو 6.5 ضعف.
وأرجح أسباب الارتفاع إلى إعادة تشغيل المداخن الصناعية مع بداية الأسبوع، إضافة إلى استمرار حرق النفايات في بعض مناطق العاصمة.
وفيما يتعلق بالإرشادات الصحية، دعا الكرعاوي المواطنين إلى تقليل الأنشطة الخارجية وتأجيل ممارسة الرياضة في الفضاء المفتوح، مع ضرورة ارتداء الكمامات الواقية من نوع N95، ومتابعة الوضع الصحي للفئات الأكثر عرضة، تجنباً لحدوث مضاعفات تنفسية محتملة.