في قلب الجامعات العراقية، حيث يتزاحم الشباب على مقاعد العلم املا في رسم مستقبل افضل لأنفسهم ولبلدهم، تنشب معركة يومية لا يراها كثيرون.. معركة لا تدور في قاعات الامتحان ولا بين دفاتر المحاضرات، إنما في اعماق النفس.
إذ يقف الطالب محاصرا بين مطرقة الضغوط الاقتصادية الثقيلة وسندان مستقبل وظيفي ضبابي مقلق. هذا الواقع لم يعد مجرد انطباع فردي، بل اصبح شهادة يومية يرويها الطلبة انفسهم، كل من تجربته وكل بنبرة تعب ممزوجة بإصرار على المواصلة.
ضغوط اقتصادية تُرهق الطالب
قد لا يبدأ يوم الطالب بمحاضرته الاولى، إنما بحسابات مالية مرهقة: تكاليف النقل، السكن، مستلزمات الدراسة والطعام.
تلك التكاليف مُجتمعة تجعل الحياة الجامعية عبارة عن معركة مالية حقيقية.
هذا ما يُعبر عنه طالب تقنيات المختبرات الطبية يوسف عبد الجبار. إذ يقول لـ"طريق الشعب"، أن "معركة صامتة تدور يوميا داخل الجامعات، بين ضغوط اقتصادية تستنزف جيب الطالب، ومستقبل وظيفي مجهول".
ويوضح أن "الكتب المنهجية لم تعد هي الأساس في التعليم.
إذ تحوّل الأمر إلى اعتماد شبه كامل على الملازم الورقية. وكل محاضرة جديدة تعني إنفاق مبلغ جديد على شرائها مطبوعة"، مشيرا إلى أن "الملازم تتكدس ونفقاتها تزداد، إضافة إلى نفقات شراء معاطف المختبر وأدواته..
كل هذه المستلزمات بحاجة إلى ميزانية مالية خاصة يُصعب على الفقير وذي الدخل المحدود تأمينها".
أجور النقل تُثقل الكواهل
من جانبها، تتحدث الطالبة زهراء حسن عن جانب آخر من معاناة الطلبة اليومية. إذ تقول أن "تكاليف النقل ترتفع كل فصل دراسي.
حتى وجبة الطعام البسيطة داخل الجامعة، بات تأمين مبلغ شرائها يُرهق الطالب".
وتشير في حديث لـ"طريق الشعب"، أن كثيرين من الطلبة صاروا يضطرون إلى العمل من أجل تأمين نفقات دراستهم، رغم أن العمل سيُحمّلهم متاعب إضافية، وسيؤثر بكل تأكيد على مجهودهم الدراسي، مبينة أنه "مع ازدياد الضغوط الاقتصادية اصبح العمل جزءا من يوم الطالب. ولأنه من الصعب الموازنة بين الدراسة والعمل، غالبا ما تكون الخسارة من نصيب الدراسة، والصحة أيضا".
وبمرارة، يصف يوسف حال الطالب الذي يعمل، قائلا: "ليس غريبا ان تجد طالبا يقضي نهاره بين المَجاهر والعيّنات وفي المساء يحمل الطابوق او يعمل نادلا في المقاهي. هذه المفارقة تسرق وقت الدراسة والراحة وتضغط على الجسد والنفس".
فيما تتحدث زهراء عن صراع داخلي يُصيبها كطالبة - عاملة: "في يوم العمل لا استطيع الدراسة. لكن من دون ذلك العمل لا استطيع شراء مراجع المادة الدراسية".
في السياق، يقول طالب القانون مصطفى حسام، أن "الكثيرين من الطلبة يعملون اثناء الدراسة.
وهذا يؤثر كثيرا على مستواهم الدراسي، ويجعل يومهم منهكا بين المحاضرات والعمل".
شهادات بلا ضمان!
في الوقت الذي تزداد فيه اعداد الخريجين، ينكمش سوق العمل. هذه المعادلة القاسية يتجرع مراراتها الطلبة يوميا.
تقول زهراء: "نحن ندرس وفي داخلنا شعور بأننا في سباق غائم لا نعرف خط نهاية له، ولا ندري ان كان موجودا اصلا"!
بينما يصف مصطفى هذا الشعور بالقول: "الخوف من المستقبل يجعل الطالب يشعر انه يسير نحو المجهول، دون ضمانات ان شهادته ستتحول في النهاية الى فرصة عمل".
أما يوسف، فيقول أن "تزايد أعداد الكليات الأهلية وخريجيها، أدى إلى حصول فائض كبير في التخصصات، ومنها تخصص المختبرات الطبية. إذ باتت المستشفيات لا تستوعب الأعداد الكبيرة من الخريجين، ما جعل التعيين المركزي حلما صعب المنال، والمستقبل ضبابيا".
ويضيف قوله أن "الأمر لا يقتصر على التخصصات الطبية. فمعظم التخصصات باتت مهددة بالركود الوظيفي، وقد لا يبقى أمامها سوى العمل في عقود مؤقتة".
ضياع الطاقات العلمية
يدرس الطالب اليوم وهو قلق من واقع لا يصنع ابداعا ولا يُنشئ جيلا واثقا من قدراته ومن مستقبله، ما ينتهي إلى ضياع الطاقات العلمية. هذا ما يقوله أكاديمي لـ"طريق الشعب"، مشيرا إلى أن الجامعات بحاجة الى شراكات حقيقية مع سوق العمل، وليس برامج شكلية لا تنعكس على المستقبل.
ويضيف قوله أن من دون طمأنة الطالب بمستقبل عملي ينتظره، لن يتحفز على الدراسة الجادة والإبداع الهادف، بما يُنمي قدراته العلمية ويؤهله لتطبيق ما تعلمه عمليا.
إصرار على المواصلة
رغم التعب والضغوط الاقتصادية، يواصل الطلبة دراستهم متمسكين بشيء من الأمل، لعل في الأفق واقعا أفضل.
إذ تقول زهراء، أن الطلبة يواصلون الاستيقاظ فجرا للذهاب إلى جامعاتهم، ثم يعودون منها منهكين، لكنهم لا يتوقفون عن المواصلة.
ويضيف مصطفى القول أن الطلبة يتحلّون بروح الاصرار، لكنهم بحاجة إلى بيئة داعمة وحلول واقعية.
وختاما، يلخص يوسف المشهد بالقول: "لا نطلب الرفاهية، نطلب الطمأنينة. نريد ان تعمل شهاداتنا من اجل وطننا وان تنظم الدولة سوق العمل حتى لا تبقى سنوات الدراسة مجرد كفاح من اجل البقاء". اصوات الطلبة ليست شكوى فردية، بل صرخة جيل كامل يعيش بين ضغوط الحاضر وقلق المستقبل، جيل لا يريد الهجرة ولا يريد الاستسلام بل يريد فقط ان يُنصف!