مع انطلاق العام الدراسي الجديد في بغداد، عادت الاختناقات المرورية لتسيطر على شوارع العاصمة، مخلفة تأثيراً مباشراً على حياة المواطنين وسائقي المركبات، فقد أصبح الازدحام جزءاً من الروتين اليومي، حيث تظل الجسور والطرق المخصصة لتخفيف الضغط المروري مكتظة بشكل مستمر، ما يؤدي إلى تأخير الوصول إلى أماكن العمل والخسارة في الرحلات، وسط غياب وسائل نقل جماعي فعالة يعتمد عليها السكان.
الأزمة المرورية في بغداد لم تعد مجرد إزعاج يومي، بل تحولت إلى عبء اقتصادي هائل، إذ تقدر الخسائر السنوية الناتجة عن الوقت الضائع واستهلاك الوقود وصيانة البنية التحتية بمليارات الدولارات، بينما تتأثر إنتاجية العامل العراقي بشكل ملموس بسبب التأخيرات اليومية. ويزداد الوضع سوءاً مع تزايد أعداد السيارات الشخصية، ما يزيد الضغط على الشوارع غير المؤهلة للتعامل مع هذا الحجم الكبير من الحركة المرورية، كما يعزز الانبعاثات الضارة بالبيئة ويضاعف التكاليف الاقتصادية على الدولة والمواطن على حد سواء.
سائق: شوارع بغداد "جحيم يومي"
يقول محمد جاسم، سائق سيارة أجرة في بغداد: "الازدحامات المرورية أصبحت جحيماً يومياً بالنسبة لي كسائق. حتى الجسور والطرق المخصصة لتخفيف الاختناقات، مثل مجسر الأمانة ومجسر الربيعي وجسر القادسية، مكتظة بالسيارات بشكل مستمر، وأضطر للانتظار ساعات طويلة قبل أن أصل لزبائني".
ويضيف جاسم لـ"طريق الشعب"، أن "هذه الأزمة تؤثر مباشرة على عملي، فأحياناً أخسر رحلات أو زبائن بسبب تأخري، وكل يوم يمرّ أشعر بالإرهاق النفسي والجسدي من مجرد التنقل في شوارع العاصمة. لا يوجد حلول عملية حتى الآن، وكل المشاريع التي نفذتها الحكومة لم تسهم فعلياً في تخفيف العبء".
ويبين جاسم، أن السبب الرئيس هو غياب وسائل النقل الجماعي واعتماد الناس على سياراتهم الخاصة، ما يزيد من عدد المركبات، ويجعل حركة السير صعبة للغاية. ويختتم بالقول: "كمواطن وسائق، أصبحت حياتي اليومية محكومة بالازدحام، وأحياناً أشعر أنني أعمل ساعات طويلة لمجرد أن أصل إلى أماكن عملي وزبائني".
ما الحل؟
فيما أكد سلوان الأغا، مهندس معماري، أن هذه الأزمة تتطلب تخطيطاً استراتيجياً بعيد المدى للتعامل مع الكثافة السكانية والحركة الاقتصادية المتنامية.
وقال الأغا لـ"طريق الشعب"، إن المدن الحالية غير قادرة على استيعاب هذه الكثافة، موضحاً أن الحل يبدأ من توزيع مراكز الاقتصاد والإدارة والمراكز التجارية الحيوية بعيداً عن مراكز المدينة، مع توفير بدائل مناسبة لها.
وأضاف أن هذا التوزيع يرتبط أيضاً بالنظام السياسي، وضرورة توزيع الصلاحيات وعدم تركزها في مكان واحد، مشيرا الى أن تطوير الطرق المحورية والحولية يشكل عنصراً أساسياً في تخفيف الاختناقات، بحيث تمر المركبات التي لا تحتاج لدخول المدينة عبر هذه الطرق الخارجية، ما يقلل من ضغط السيارات على الشوارع الداخلية. كما شدد على ضرورة إعادة النظر في اتجاهات الشوارع، وإنشاء التقاطعات والإشارات الضوئية والجسور، بهدف تنظيم الحركة وتسهيل تنقل المواطنين.
وبين الأغا أن بعض الحلول الأخرى تشمل إلزام المباني التجارية والمرافق الكبيرة بتوفير مواقف سيارات كافية تحت الأرض أو وفق التصميم المعماري للبناية، بما يساهم في تقليل الكثافة المرورية داخل المدن، مضيفا أن تنفيذ هذه الإجراءات يحتاج إلى خطة استراتيجية طويلة المدى، مع إجراءات متوسطة المدى تشمل تطبيق قوانين وتشريعات محددة من قبل الوزارات المعنية، مثل وزارتي الإسكان والبلديات، والنقل.
وعن الحلول المستقبلية، شدد الأغا على أهمية تطوير النقل العام والنقل الشامل، بما في ذلك مشاريع الترام والمترو، لتخفيف الضغط على الطرق وتحسين حركة المواطنين داخل المدن، مؤكداً أن النقل الجماعي الفعّال يشكل ركيزة أساسية لتخفيف الاختناقات المرورية على المدى الطويل.
واختتم الأغا بالقول: إن إدارة الحركة المرورية تتطلب تكاملاً بين التخطيط العمراني، تطوير البنية التحتية، التشريعات، وتعزيز ثقافة النقل العام، لضمان استدامة الحركة داخل المدن وحماية المواطنين من الاختناقات اليومية التي تؤثر على حياتهم العملية والشخصية.
غياب منظومة نقل عام
من جهته، يقول عبدالله نجم إن أزمة الازدحامات المرورية في العراق لم تعد مجرد مشكلة يومية بسيطة، بل تحولت إلى عبء اقتصادي هائل يهدد استقرار الاقتصاد الوطني.
ويضيف نجم أن الخسائر المباشرة الناتجة عن الوقت المهدور، واستهلاك الوقود، وصيانة البنية التحتية تصل إلى أكثر من ملياري دولار سنوياً، وهو مبلغ كان بالإمكان استثماره في مشاريع إنتاجية وتنموية تعزز النمو وتخلق فرص عمل جديدة.
ويشير نجم في حديث لـ"طريق الشعب"، الى أن الدراسات الدولية تظهر أن العامل العراقي الذي يتأخر يومياً لمدة ساعة كاملة بسبب الاختناقات المرورية تقل إنتاجيته بنسبة تصل إلى 15 في المائة مقارنة بزملائه، ما ينعكس سلباً على أداء المؤسسات والقطاع الخاص، ويخفض الكفاءة الاقتصادية العامة.
ويبين أن تكاليف النقل المرتبطة بالازدحام في عام 2024 تستهلك حوالي 1.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للعراق، وهو رقم كبير يوضح أن الازدحام لم يعد مجرد إزعاج يومي، بل مشكلة اقتصادية على نطاق واسع.
من جهة أخرى، يذكر نجم أن المشكلة تتفاقم بسبب غياب منظومة نقل عام متكاملة، إذ يعتمد المواطن العراقي بشكل شبه كامل على السيارات الخاصة وسيارات الأجرة، ما يزيد من أعداد المركبات على الطرق ويضاعف الضغط على البنية التحتية غير المؤهلة للتعامل مع هذا الحجم الكبير من الحركة المرورية، بالإضافة إلى زيادة استهلاك الوقود المستورد وارتفاع نسب الانبعاثات الضارة بالبيئة.
ويعتقد أن استمرار الوضع على هذا النحو يعني أن الاقتصاد العراقي يدفع فاتورة يومية قاسية، وفقدان مليارات الدولارات سنوياً، مؤكداً أن الحل الاستراتيجي يكمن في الاستثمار العاجل في مشاريع النقل الجماعي، مثل القطارات الخفيفة والحافلات الجماعية، التي تقلل عدد السيارات على الطرق، وتخفض التكاليف الاقتصادية، وتحافظ على البيئة، وتعيد الانسيابية لحركة المواطنين، وبالتالي حماية الاقتصاد الوطني من خسائر سنوية فادحة تهدر مليارات الدولارات دون طائل.
الإعمار والإسكان تدافع عن مشاريعها
بدوره، ذكر المتحدث باسم وزارة الأعمار والإسكان، نبيل الصفار، أن مشاريع فك الاختناقات المرورية ساهمت بالفعل في تخفيف الضغط المروري في الأماكن التي أنجزت فيها، وهو ما لمسه المواطن بشكل فعلي على الأرض، مشيراً إلى أن العمل لا يزال مستمراً في مشاريع الحزمة الأولى بالإضافة إلى البدء ببعض مشاريع الحزمة الثانية، سواء التي تنفذها وزارة الأعمار والإسكان والبلديات العامة أو تلك التي تنفذها أمانة بغداد.
وقال الصفار لـ "طريق الشعب"، ان "مع اكتمال هذه المشاريع ستشهد العاصمة انسيابية كبرى في حركة السير، لا سيما مشاريع إنشاء الجسور الرابطة بين جانبي الكرخ والرصافة والتي تبلغ ستة جسور"، مشيراً إلى أن بغداد لم تشهد إنشاء جسر عابر لنهر دجلة منذ أكثر من ثلاثين عاماً وهذه الجسور ستوفر محاور ربط حيوية تخفف من الاختناقات المرورية وتسهّل التنقل بين جانبي المدينة.