لم تعد وزارتا التربية والتعليم العالي، مؤسستين معنيتين بصناعة المعرفة او رعاية الأجيال، بل تحولتا ـ بفضل سلوك السلطة واحزابها ـ إلى منصات دعائية انتخابية ومقار حزبية متنكرة بواجهة أكاديمية. اما مؤسساتها التي يفترض ان تكون صروحا علمية حصينة، فقد بات اكثرها دكاكين تتلاحق للترويج للمسؤول.
وبدل أن تكون القرارات الوزارية رصينة ومدروسة، باتت الاستثناءات والقرارات الارتجالية تصدر بالجملة، وهي في حقيقتها لا تتعدى كونها مبادرات تهدف لاستمالة العوائل والطلبة، وتخدم مصالح سياسية.
السياسة قبل التعليم والتعلم
يقول مختصون ومهتمون بالشأن التعليمي ان المدارس والجامعات التي يُفترض أن تكون فضاءً للعلم، صارت مسرحاً لصور المحافظين والوزراء وشعارات أحزابهم، في مشهد يذكّر بممارسات الأنظمة الشمولية التي حوّلت قاعات الدرس الى معارض للزعامات. أما الاتحادات الطلابية المهنية والنقابية، فقد جرى خنقها ومنعها، في حين تُفتح الأبواب أمام النشاطات السياسية المرتبطة بجهات السلطة، معتبرين ذلك "نتيجة طبيعية لمؤسسات أسيرة المحاصصة، ولوزراء يضعون الولاء الحزبي فوق المصلحة الوطنية، ولطلاب يجري استغلالهم في الحملات الدعائية في مواسم الانتخابات".
قرارات ارتجالية تهدد التعليم
في هذا الصدد، انتقد نقيب الاكاديميين السابق مهند هلال سياسات وزارتي التربية والتعليم العالي، معتبراً أن “القرارات الاستثنائية التي تُتخذ بشكل متخبط باتت تضرب جوهر العملية التعليمية، وتحوّل المؤسسات التربوية والأكاديمية الى أدوات بيد قوى السلطة".
وقال هلال في حديث لـ"طريق الشعب"، ان “الخلل لا يقتصر على وزارة بعينها، او وزارة دون اخرى، إذ نرى ان الموضوع متفشٍ في جميع الوزارات، وينعكس في اغلب القرارات خصوصاً في مرحلة ما قبل الانتخابات".
وأضاف ان الموضوع ليس بجديد، انما تعاملت جميع الحكومات مع ملف التعليم باعتباره وسيلة لتثبيت حضورها السياسي لا كركيزة لبناء الدولة"، مضيفا انه "بدلاً من وضع خطط استراتيجية طويلة المدى، نرى سلسلة من القرارات الارتجالية التي تُعلن فجأة، وغالباً ما تكون مرتبطة بمواسم انتخابية او دعاية حكومية".
وتابع هلال ان "هذا النهج أنتج استثناءات متكررة في القبولات الجامعية، ونقل الطلبة، وإعادة الامتحانات، وتوسيع المقاعد الدراسية على حساب معايير الجودة والقائمة تطول"، مبينا أن جذور المشكلة تكمن في "غياب استقلالية المؤسستين التربوية والتعليمية، إذ لم تُمنحا يوماً مساحة كافية لاتخاذ قرارات مهنية بمعزل عن الضغوط السياسية، ناهيك عن المحاصصة التي تعصف وتعبث بهما".
ورأى انه “حين يصبح الوزير او المدير العام محسوباً على حزب او تيار، فمن البديهي ان القرارات تُصاغ لخدمة الولاء السياسي قبل خدمة الطالب او الأستاذ او العملية بشكل عام"، معتقدا أن المعالجة تكمن في “إعادة الاعتبار لهاتين المؤسستين، وربط القرارات التعليمية بمعايير الجودة، لا بالأمزجة السياسية".
وشدد على ضرورة "تشريع قوانين تضمن استقلالية هذه المؤسسات، بحيث لا تتحول كل دورة انتخابية إلى منصة لإغراق العملية التعليمية بمزيد من الفوضى".
وختم بالقول انه “من دون إصلاح جذري يرفع يد قوى السلطة عن التربية والتعليم، سيبقى الطالب والجامعة والمدرسة رهائن تجاذبات وصراعات سياسية ودعائية لا علاقة لها بمستقبل البلاد".
طلاب ام مهاويل؟
من جانبه، انتقد المراقب للشأن التعليمي علي حاكم ما وصفه بـ”استغلال السلطات المحلية للمؤسسات الحكومية، وفي مقدمتها مديريات التربية، لتحقيق مكاسب انتخابية ودعائية على حساب المصلحة العامة”.
وقال حاكم لـ"طريق الشعب"، إن "المسؤولية الأولى تقع على عاتق السلطة المحلية، سواء في كربلاء أو في عموم المحافظات، لأنها تمسك بزمام الأمور وتوجه المؤسسات الحكومية لخدمة أجنداتها. فمدير التربية المعيّن من قبل حزب أو جهة سياسية لا يستطيع مخالفة تعليمات المحافظ أو وزير التربية، وبالتالي تصبح قراراته مرتهنة بالسلطة السياسية لا بالعملية التعليمية".
وأضاف حاكم أن قرارات توزيع قطع الأراضي أو إطلاق امتيازات للمعلمين غالباً ما تأتي متزامنة مع مواسم الانتخابات، معتبراً ذلك “أداة انتخابية مكشوفة تستهدف العوائل والرأي العام أكثر مما تخدم قطاع التربية”.
وأوضح أن “وزارة التربية ومديرياتها تعاني منذ سنوات من التخبط وكثرة الاستثناءات غير المدروسة، الأمر الذي أثر سلباً على استقرار العملية التعليمية”، منتقداً قيام بعض المحافظين باستغلال مشاريع المدارس لأغراض دعائية.
وبيّن حاكم أنه “نشاهد افتتاح مدارس في كربلاء مثلاً، توضع عليها صور المحافظ وشعارات حزبه وكأنها منجز شخصي، فيما يُمنع في المقابل نشاط المنظمات المهنية داخل المدارس. هذا سلوك يذكرنا بممارسات النظام السابق عندما كانت صور صدام تُعلّق في المؤسسات التعليمية".
وختم بالقول ان “المشكلة الحقيقية تكمن في عقلية السلطة التي تسخّر التربية لأغراض سياسية، فيما يبقى مديرو التربية ووزارة التربية مجرد أدوات بلا تأثير يُذكر، ما الذي يمكن قوله اكثر حين يحول المسؤول الطالب الى مهوال؟".
النشاط الطلابي المهني محظور
ولا تقتصر هذه الدعاية السياسية على القرارات فقط، اذ تحظر وزارتا التربية والتعليم العالي التعامل مع النشاط الطلابي النقابي.
يقول عضو مكتب سكرتارية اتحاد الطلبة العام، احمد سعد، في حديث لـ "طريق الشعب"، ان الوزارتين تمنعان النشاطات والفعاليات الطلابية التي لا تتماشى مع مزاجهما، وتحظران الاتحادات المهنية. فيما تسمحان في المقابل بانتشار النشاط السياسي المرتبط بالأحزاب الحاكمة”.
ويضيف قائلاً انه “من المؤسف أن تتحول المدارس والجامعات إلى ساحات دعائية، في الوقت الذي تُحظر فيه النشاطات المهنية التي تُعنى بحقوق الطلبة وشؤونهم الدراسية ومستقبله"، معتبرا ان هذا التناقض "يعكس طبيعة الخلل العميق في فلسفة الوزارتين، إذ لم تُبنَ سياساتهما على مبدأ رعاية الطالب، وإنما على خدمة الوزير وحزبه".
ويشير سعد إلى أن “القرارات الأخيرة الصادرة من الوزارتين، هي خير دليل، إذ انها لا تُقرأ الا في سياق دعائي انتخابي، بينما يجري غضّ الطرف عن نشاطات طلابية حزبية داخل الحرم الجامعي وحتى الثانويات والمدارس، والتي عادة ما تكون مرتبطة بقوى سياسية مهيمنة على السلطة”.
وبيّن أن “استمرار هذا النهج يخلق بيئة تعليمية غير عادلة، تهمّش أصوات الطلبة المستقلة، وتحوّل الجامعات والمدارس إلى واجهات سياسية بدلاً من كونها صروحا علمية ومؤسسات معرفية”.
وجدد دعوته في السياق الى الغاء الحظر المفروض على الاتحادات والنقابات الطلابية المهنية، ومنحها مساحة مناسبة للعمل المهني داخل المؤسسات التعليمية، الى جانب الحرص على منع استغلال الحرم التعليمي في الدعاية السياسية.
واختتم سعد حديثه بالقول: إن "ترك الوزارتين أسيرتين للمحاصصة السياسية سيبقي الطالب أداة انتخابية بيد السلطة، بينما يُحرم من أبسط حقوقه في التنظيم والعمل الطلابي الحر".