تكشف الحملات الدعائية الخاصة بالانتخابات البرلمانية المقبلة، في محافظة ذي قار عن صورة قاتمة لآفة الفساد التي تنهش بمؤسسات الدولة وتهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
ومع تصاعد الإنفاق الانتخابي المبالغ فيه وعودة المكاتب الدعائية الفارهة، يتحدث مسؤولون محليون وناشطون مدنيون عن "اقتصاد ظلّ" تديره الأحزاب السياسية داخل دوائر الدولة، فيما تتحول المشاريع الخدمية المتعثرة إلى شاهد دائم على فشل منظومة الإدارة والرقابة.
ويحذر ناشطون محليون من أن الانتخابات المقبلة ستكون اختبارا حقيقيا لنزاهة الأحزاب والمسؤولين، مؤكدين أن استمرار هذه الممارسات يهدد استقرار المحافظة ويعيق التنمية المنتظرة من المواطنين.
وقال عضو سابق في مجلس محافظة ذي قار، شهيد الغالبي، أن الفساد مستشر في جميع مفاصل الدولة، وأن الدوائر الحكومية تحولت إلى ما يشبه اقتصاديات خاصة للمسؤولين والأحزاب السياسية.
وأضاف أن محافظة ذي قار ليست بمعزل عن هذا الواقع، بل هي في قلب الحدث، حيث تتجلى مظاهر الفساد بشكل واضح خلال الحملات الانتخابية الحالية.
وأشار الغالبي في حديث لـ"طريق الشعب"، إلى أن وسائل الدعاية الانتخابية شهدت انتشارا واسعا، خلال اليومين الماضيين، لدرجة استخدام الرافعات لوضع اللوحات الإعلانية في أماكنها المخصصة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل شمل فتح المكاتب الانتخابية في جميع الوحدات الإدارية بالمحافظة، بأجور إيجارات تصل إلى ملايين، إضافة إلى تكاليف الخدمات والتأثيث، وكم هائل من الأموال سلّم الى مرشحي أحزاب السلطة لتغطية حملاتهم الدعائية.
وتساءل الغالبي عن مصادر هذه الأموال، وعن الطرق الرسمية التي تم صرفها بها، مؤكداً أن هذه الممارسات هي نموذج واضح للفساد الذي ينخر في مؤسسات الدولة، مردفا أن الفساد لم يقتصر على الأموال، بل يشمل الرشوة والمحسوبية والمنسوبية، وهي ظواهر منتشرة في جميع أنحاء المحافظة.
وأكد الغالبي أن آثار هذا الفساد انعكست بشكل مباشر على توقف العديد من مشاريع الدولة أو تعثرها، فضلاً عن توقف الكثير من المقاولين عن العمل، بسبب عدم توفر التمويل.
ولفت إلى أن هناك صعوبات في صرف رواتب المتقاعدين والموظفين، وأن بعض أسباب توقف البرلمان عن المصادقة على جداول الموازنة يعود إلى الفساد وارتفاع المديونية، برغم أن العراق بلد غني ويمتلك ثروات هائلة يمكن استثمارها بشكل حكيم لضمان رفاهية المواطن العراقي.
واختتم بالقول إن الانتخابات المقبلة ستكون مفصلية، إذ إن العراق إما أن يكون دولة ذات هيبة وقوة اقتصادية، أو يظل غارقا في الفساد والفوضى والاستقرار، محذرا من أن استمرار هذه الممارسات سيحول البلاد إلى بيئة غير مستقرة تعاني من شلل مؤسساتي واقتصادي.
ضبطوا بالجرم المشهود
أعلنت هيئة النزاهة، الاثنين الماضي، عن ضبط متهمين في محافظة ذي قار بتهم الرشوة واستغلال الوظيفة العامة، بالإضافة إلى مخالفات في عقود مُبرمة بدائرة صحة محافظة نينوى.
وقالت الهيئة، في بيان صادر عن مكتب تحقيق ذي قار، إن ملاكاتها تمكنت من ضبط متهم متلبس بالجرم المشهود أثناء تسلّمه مبلغ رشوة مقابل إكمال معاملة تخص تخصيص عقار في مقاطعة الجزيرة، بالتعاون مع موظفين في بلدية الناصرية.
وفي عملية منفصلة، تمكنت مفرزة أخرى من ضبط متهم بالجرم المشهود يعمل في ديوان المحافظة، وبحوزته حقيبة تحتوي على مجموعة من المعاملات العقارية وصور قيود عقارات، بالإضافة إلى معاملة تتعلق بإنشاء محطة لغسيل السيارات. وأوضحت الهيئة أن المتهم كان يقوم بتعقيب المعاملات في مديرية بلدية الناصرية.
وأشارت الهيئة إلى أن هذه العمليات تأتي في إطار جهودها المستمرة لمكافحة الفساد وضمان الشفافية في المؤسسات الحكومية، وفرض القانون على كل من يستغل وظيفته العامة لتحقيق مكاسب شخصية.
دوائر غارقة بالفساد!
يقول مراقب للشأن المحلي، صادق السهل، أن "الحكومة تمول المشاريع الخدمية بطريقتين رئيسيتين، وهما عبر المشاريع المرتبطة بالوزارات مباشرة أو عبر المحافظات، بعد أن تقترح الوحدات الإدارية المشاريع ويصادق عليها مجلس المحافظة ووزارة التخطيط. أما الطريقة الثالثة فهي عن طريق المشاريع الاستثمارية".
ويضيف السهل لـ"طريق الشعب"، أن "محافظة ذي قار تعاني من شبهات فساد على جميع هذه المستويات. ويتحدث الكثير من رؤوس الأموال والشركات والمقاولين عن تعرضهم لمساومات تجبرهم على دفع نسب معينة لموظفين لغرض الحصول على عقود حكومية بمختلف أنواعها".
ويشير إلى أن ما يعرف بـ"النسبة" أصبح ممارسة طبيعية في كثير من دوائر الدولة، مبينا انه "دائماً ما تقف خلف هذه العمليات جهات مسنودة من أحزاب سياسية حاكمة أو فصائل مسلحة، وهذه النسبة تُغذي أحزاباً معينة تستولي على إدارات ووزارات في الدولة العراقية".
ويستشهد السهل بتأثير الفساد على المشاريع العامة، قائلاً ان "الفساد أثر بشكل كبير على جودة المشاريع وتوقيتات الإنجاز المحددة. وعلى سبيل المثال، مشروع إنشاء مستشفى الحوراء للولادة في قضاء الشطرة، مرّ عليه خمس حكومات مركزية وسبعة محافظين وثلاث دورات لمجالس المحافظات، ولا يزال المستشفى منذ ما يقارب خمسة عشر عاماً لم يُكتمل بعد".
ويختتم بالقول إن "الفساد في ذي قار هو الأداة الأهم لموارد الأحزاب التي تسيطر على عديد من مؤسسات الدولة، وهذا ما ينعكس دائماً على مستوى الرفض الاجتماعي، إذ نرى دائماً الشباب في المحافظة في طليعة موجات الاحتجاجات التي مرّت بها الدولة العراقية بعد عام 2003. وقد أدى ذلك إلى عزل الطبقة السياسية الحاكمة في المحافظة في بيئات زبائنية خاصة بهم، إذ استبدلوا قبول الشارع بهم بموارد مالية، فهي بالنسبة لهم الأهم لبقائهم في السلطة وخدمة مصالحهم الضيقة".
من جانبه، قال الناشط سجاد علي، إن الفساد أصبح يشكل عقبة كبيرة أمام التنمية في محافظة ذي قار، مؤكداً أن مؤسسات الدولة في المحافظة تعمل لمصلحة الأحزاب والمتنفذين بدلاً من خدمة المواطنين.
وأضاف علي في تعليق لـ"طريق الشعب"، أن "مظاهر الفساد تتجلى بوضوح في الحملات الانتخابية الحالية، من خلال الإنفاق المبالغ فيه على الدعاية والإعلانات الضخمة، وفتح المكاتب في أحياء مختلفة بتكاليف باهظة"، مشيراً إلى أن "جزءاً كبيرا من هذه الأموال يستحصل بطرق غير مشروعة".
وأشار الناشط إلى أن هذا الوضع انعكس على توقف أو تأخر تنفيذ عدد من المشاريع الخدمية، كما أدى إلى صعوبة صرف مستحقات الموظفين والمتقاعدين في بعض الأحيان، مؤكداً أن العراق يمتلك الموارد والإمكانات التي لو أُديرت بشكل عادل وشفاف، لكان الوضع الاقتصادي أفضل بكثير.
وختم سجاد علي بالتحذير من أن الانتخابات المقبلة ستكون اختباراً حقيقياً لالتزام الأحزاب والمسؤولين بالممارسات الديمقراطية، قائلاً: "إذا استمر الفساد بهذا الشكل، فإن المحافظة ستظل تعاني من ضعف المؤسسات وعدم استقرار الخدمات، ولن تتحقق التنمية التي ينتظرها المواطنون".