اخر الاخبار

مع اقتراب نهاية عمر الحكومة الدستوري، يفتح حديثها عن إعداد موازنة عام 2026 الباب مجدداً أمام واحدة من أكثر القضايا تعقيداً في الإدارة المالية، وهي ملف الحسابات الختامية الذي يعاني من إهمال مزمن منذ سنوات؛ فعلى الرغم من وضوح النصوص الدستورية التي تُلزم الحكومة بتقديم هذه الحسابات سنوياً إلى مجلس النواب لضمان الشفافية والرقابة على المال العام، إلا أن غيابها المستمر جعل الإنفاق الحكومي يتحرك في مناطق رمادية تفتقر إلى التدقيق والمساءلة.

وفي ظل شروع وزارة المالية بصياغة موازنة جديدة قبل إقرار جداول موازنة 2025، تعالت التحذيرات من أن البلاد تسير نحو أزمة مالية ودستورية مركبة، خصوصاً بعد أن أكدت المحكمة الاتحادية العليا وجوب إلزام الحكومة بتقديم حساباتها الختامية في مواعيدها المحددة، فيما يرى اقتصاديون أن الخطوة الحكومية تحمل أبعاداً انتخابية أكثر منها اقتصادية، في ظل عجز واضح عن حسم ملفات الإنفاق وتضخم المديونية والمشاريع المتوقفة.

وكانت المحكمة الاتحادية العليا ألزمت الحكومة الحالية ووزارة المالية بتقديم الحسابات الختامية في مواعيدها الدستورية، بناءً على الدعوى التي أقامها سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي رائد فهمي، بعد خوضه الكثير من جولات المرافعات القضائية لحسم هذا الملف.

وتتمثل أهمية الحسابات الختامية في كونها تقدم تقريرًا مفصلًا عن الإيرادات والنفقات خلال السنة المالية مما يسهم في تقديم صورة واضحة حول كيفية إدارة الأموال العامة، إضافة إلى ذلك تساعد هذه الحسابات في متابعة تطابق الصرف مع الموازنة المعتمدة، وتساهم في إظهار أي تجاوزات أو اختلالات قد تحدث في هذا المجال.

ويبدو أن شلل تلك الحسابات انتقل إلى الموازنات أيضا، فلم تعد الحكومات قادرة على تقديم موازنات مالية، برغم "ابتكار" الحكومة الحالية لـ"الموازنة الثلاثية" لكنها لم تتمكن من دفع جداول العام الحالي الى البرلمان، فمرت 2025 من دون موازنة مالية ولا حسابات ختامية، بينما راحت الحكومة التي لم يبق لولايتها سوى 20 يوما تتحدث عن شروعها في اعداد موازنة 2026، كذلك لم يتمكن البرلمان من عقد جلساته الاعتيادية التي تراكمت على طاولتها الكثير من التشريعات المهمة.

المالية البرلمانية تتحفظ

وأبدى عضو في اللجنة المالية البرلمانية، تحفظا كبيرا على إعلان الحكومة العمل بإعداد موازنة 2026 دون إقرار جداول سنة 2025، واصفاً الخطوة بأنه "إجراء غير سليم".

وقال النائب معين الكاظمي، في تصريح لـ"طريق الشعب"، ان "هناك قلقاً إزاء شروع وزارة المالية بإعداد موازنة عام 2026 في الوقت الذي لم تقر فيه حتى الآن جداول موازنة عام 2025، رغم أن السنة المالية أوشكت على الانتهاء، وكذلك العمر الدستوري للحكومة والبرلمان".

واضاف الكاظمي، أن "البدء بمناقشة أو إعداد موازنة 2026 دون الانتهاء من موازنة 2025 يعد إجراء غير سليم من الناحية الإدارية والمالية"، مبيناً أن "الجهات التنفيذية ملزمة قانوناً بتنفيذ موازنة السنوات الثلاث التي أقرها البرلمان سابقاً، وليس تجاوزها دون تصديق جداول السنة الجارية".

ونبه الى أن "البلاد تعاني من تأخر مستحقات المحافظات والمشاريع الاستثمارية ورواتب بعض الفئات نتيجة عدم اعتماد الجداول النهائية لموازنة 2025، وهو ما يجعل أي حديث عن موازنة جديدة يفتقر إلى الأساس الواقعي في ظل غياب الحسابات الختامية للسنة الحالية".

وخمن أن تكون موازنة عام 2026 "لسنة واحدة فقط، بعد أن أثبتت تجربة الموازنة الثلاثية فشلها في التطبيق العملي".

وختم الكاظمي حديثه مؤكداً أن "اللجنة المالية ستتابع هذا الملف بدقة، وستطالب الحكومة بتوضيحات رسمية حول أسباب التأخير في حسم موازنة 2025، وآلية الشروع بموازنة 2026 في ظل غياب الأسس التشريعية والرقابية المطلوبة".

وكان مستشار رئيس الوزراء د. مظهر محمد صالح قد صرح بأن وزارة المالية شرعت في إعداد موازنة سنة 2026، مؤكداً استمرار النشاط المالي في البلاد حتى في حال تأخر إقرار الموازنة.

أزمة مزمنة في إعداد الموازنات

من جهته، أكد الخبير الاقتصادي صالح الهماشي، أن الحكومات المتعاقبة ـ والحالية من بينها ـ لم تنجح حتى الآن في إعداد موازنة حقيقية تعكس احتياجات العراق المالية، وتتوافق مع قدراته وإيراداته الفعلية، مشيراً إلى أن موازنة عام 2026 ستكون “معقدة للغاية” في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة.

وقال الهماشي لـ"طريق الشعب"، إن “العراق يعاني منذ سنوات من أزمة مزمنة في إعداد الموازنات العامة، فحتى الآن لم تصل الحكومة إلى مرحلة الحسابات الختامية التي تعاني بدورها من مشكلات قانونية وإدارية متراكمة”، مبيناً أن “تذبذب أسعار النفط ما زال يمثل المعضلة الأكبر أمام الاستقرار المالي، إذ لم تتمكن الدولة من إيجاد موارد ثابتة يمكن اعتمادها في تقدير الإيرادات المستقبلية”.

وأضاف أن “الميزانية الاستثمارية لا تزال غامضة، ولم تحقق إنجازات ملموسة على الأرض، باستثناء بعض المشاريع التي تم تمويلها عبر السندات الحكومية التي أصدرتها الدولة"، موضحاً أن “هذه السندات تمثل ديوناً داخلية تراكمت إلى جانب الديون الخارجية، ما زاد من الأعباء المالية على الدولة”.

وأشار إلى أن “المرحلة السياسية المقبلة، سواء استمر رئيس الوزراء، في ولايته أو جاءت حكومة جديدة، ستواجه تحديات مضاعفة، إذ ترتبط الموازنة عادة بخلافات سياسية حادة داخل البرلمان”، مؤكداً أن “الحكومات في العراق ما زالت تبرر إخفاقاتها بتراكمات الماضي، في ظل ضعف المساءلة القانونية والدستورية عن تأخر إعداد الموازنات”.

وختم الهماشي تصريحه بالقول إن “غياب الموازنات في السنوات الماضية أصبح أمراً اعتيادياً في العراق، بسبب ضعف الرقابة الدستورية، في حين كان من المفترض أن تتولى المحكمة الاتحادية محاسبة الجهات المقصّرة، وهو ما لم يحدث حتى الآن”.

الحكومة لا تملك صلاحية إعدادها

أما الاكاديمي والباحث في الشأن الاقتصادي د. عبد الرحمن المشهداني، فيشير الى ان الحكومة الحالية لا تمتلك الصلاحية القانونية لإعداد موازنة عام 2026، مبينًا أن المدد الدستورية المحددة لتقديمها قد انتهت دون أن تُحال إلى مجلس النواب.

وأوضح المشهداني، أن وزارة المالية كان يفترض أن تُسلّم مشروع الموازنة إلى الحكومة في السادس عشر من أيلول الماضي، على أن تُحال إلى البرلمان في السادس عشر من تشرين الأول، إلا أن تلك التوقيتات لم يُلتزم بها.

وأشار إلى أن تصريحات الحكومة بشأن الموازنة قد تحمل بُعدًا انتخابيًا أو تهدف إلى تهدئة الشارع، في ظل توقف العديد من الملفات الخدمية والتنموية مثل التعيينات والعلاوات وتمويل المشاريع على إقرار الموازنة.

مأزق مالي ينتظر الحكومة المقبلة

من جهته، رأى الخبير الاقتصادي أحمد عبد ربه أن إقرار موازنة عام 2026 غير مرجّح في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة، مشيراً إلى أن الحكومة الحالية ستتحول إلى حكومة تصريف أعمال مع قرب حلّ البرلمان، فيما يُتوقع أن تستمر عملية تشكيل الحكومة الجديدة حتى منتصف العام المقبل.

وقال عبدربه في حديث لـ"طريق الشعب"، إن “أسعار النفط الحالية لا تشجع على المضي في إعداد الموازنة، فبرميل النفط يُباع حالياً بنحو 57 دولاراً، بينما يفترض أن يُعتمد في الموازنة سعر واقعي لا يتجاوز 40 دولاراً، تحسّباً لأي صدمة جديدة في السوق العالمية”.

وأضاف أن “من الضروري ضبط النفقات بطريقة تضمن سلامة الاقتصاد العراقي، إذ لا يمكن الاستمرار في نفقات مرتفعة مقابل واردات محدودة”، مبيناً أن “الإيرادات النفطية الحالية لا تكفي لتغطية النفقات الجارية للدولة”.

وأكد عبد ربه أن “انخفاض أسعار النفط هو العامل الأساسي الذي حال دون تشجيع الحكومة على إقرار الموازنة، لأن ذلك سيجعلها ملزمة بصرف مبالغ وتخصيصات قد لا تتوفر مواردها”، مشيرا الى أن “الحكومة اليوم أمام مأزق اقتصادي حقيقي يتطلب وضع خطة مالية مرنة لمعالجة الأزمة بشكل حيوي وجذري”.