لم تُكلِّف قوى المحاصصة والفساد، ولا السلطات الاتحادية او في الاقليم بمختلف مستوياتها، نفسها عناء التعليق على قرار البرلمان التركي القاضي بتمديد بقاء القوات العسكرية التركية داخل الأراضي العراقية. والمفارقة اللافتة أن حزب الشعوب الديمقراطي التركي كان الطرف الوحيد الذي أبدى اعتراضًا واضحًا على هذا القرار، في وقتٍ لزمت فيه مؤسسات الدولة العراقية الصمتٍ المطبق، منشغلةً بالحملات الانتخابية وبصراعاتها الداخلية، دون أن تنبس ببنت شفة تجاه الانتهاك التركي المستمر للسيادة الوطنية.
سياسات عدائية
ويكشف هذا الموقف الفاضح عن عجز رسمي مقلق إزاء الأطماع المتجددة لحكومة حزب العدالة والتنمية، التي تحاول أن تُظهر نفسها كـ"صديقٍ للعراق"، فيما تمارس على الأرض سياسات عدائية واضحة، بدءًا من قطع المياه عن البلاد، وصولًا إلى التدخل السافر في الشأن العراقي الداخلي.
ورغم قرار حزب العمال الكردستاني بحل الأطر التنظيمية للحزب ونزع سلاحه، صادق البرلمان التركي، يوم الثلاثاء الماضي، على تمديد الوجود العسكري التركي في العراق وسوريا ولبنان (الاخير ضمن قوات اليونيفيل) لمدة ثلاث سنوات إضافية. جاء ذلك خلال جلسة للجمعية العامة للبرلمان التركي خُصصت لمناقشة المذكرة الرئاسية بشأن تمديد فترة إرسال القوات العسكرية التركية في كل من العراق وسوريا، حيث وافق البرلمان على تمديدها ثلاثة أعوام اعتبارًا من 30 تشرين الأول الجاري.
وأشارت المذكرة الرئاسية التي تحمل توقيع رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان إلى أن “التهديد الإرهابي المستمر في المناطق المتاخمة للحدود البرية الجنوبية لتركيا، وعدم إرساء الاستقرار الدائم، لا يزالان يشكلان مخاطر وتهديدات للأمن القومي التركي”.
اعتراض تركي
المفارقة الكبرى تمثلت في صمت السلطات العراقية الاتحادية وفي الاقليم، عن إبداء موقف واضح من هذا القرار، في وقتٍ استبق فيه حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب التركي تصويت البرلمان بإعلانه رفض مقترحات الرئاسة التركية المتعلقة بتمديد مهام القوات في العراق وسوريا لمدة ثلاث سنوات إضافية.
وقالت نائبة رئيس المجموعة النيابية في الحزب، غولستان كيليتش كوتشيغيت، إن الحزب صوّت بـ"لا" على المقترحات المتعلقة بالعراق وسوريا ولبنان، مشيرة إلى أن هذه المقترحات تتناقض مع عملية الحل الديمقراطي التي تسعى تركيا إلى إجرائها داخليًا.
وأضافت كوتشيغيت أن تركيا تنتهج سياسة بعيدة عن تلبية احتياجات الشعوب، موضحة ان "هناك عملية جارية في تركيا، وقد تم تجاوز عتبة حاسمة فيما يتعلق بالحل الديمقراطي للقضية الكردية، ومع ذلك هناك تباين بين المقترحات المقدمة إلى المجلس وهذه العملية".
وتساءلت النائبة عن مصطلح "احتياجات النظام السوري" الوارد في المقترحات، مؤكدة أن ما يهم حزبها هو مطالب الشعوب وبناء سوريا ديمقراطية وموحدة، مشددة على أن "هذه المقترحات لن تساهم في تحقيق السلام الإقليمي".
صمت رسمي
وصباح امس، حاول مراسلو "طريق الشعب" التواصل مع المتحدث باسم الحكومة العراقية وكذلك استبيان موقف وزارة الخارجية، فضلًا عن أعضاء لجنتي الأمن والدفاع والعلاقات الخارجية في مجلس النواب، إلا أن أياً من هؤلاء لم يرد على اتصالات أو استفسارات الجريدة.
واكتفى نائب رئيس خلية الإعلام الأمني اللواء تحسين الخفاجي بالقول إن وزارة الدفاع غير مخولة بالتصريح حول الموضوع لأنه سياسي الطابع ويقع ضمن اختصاص وزارة الخارجية.
من جانبه، أكد عضو مجلس النواب محمد عنوز أن ملف السيادة العراقية يجب أن يُعالج بطريقة شفافة، مشددًا على أن حدود البلاد لا يجوز أن تُستباح من أي قوة أجنبية، سواء كانت تركية أو غيرها، داعياً إلى اتخاذ موقف رسمي واضح من الجهات المختصة إزاء استمرار الوجود العسكري التركي داخل الأراضي العراقية.
وقال عنوز في حديث لـ"طريق الشعب"، إن “تعزيز ثقة المواطنين بالعملية السياسية واحترام هيبة الدولة يتطلب موقفًا حقيقيًا من الجهات العسكرية والأمنية ومن القائد العام للقوات المسلحة”، متسائلًا: “هل هناك تفاهم رسمي مع الجانب التركي يسمح له باختراق العمق العراقي وتنفيذ ضربات داخل الأراضي العراقية كما حدث في السنوات الماضية، والتي تسببت بسقوط ضحايا من المدنيين والعسكريين في المناطق الكردستانية؟”.
قضية وطنية
وأضاف أن “الصمت الحكومي والسياسي حيال هذه الخروقات يضعف ثقة المواطنين بالدولة، ويجعل من هيبتها موضع تساؤل، لأن الحكومة لم تتخذ حتى الآن مواقف حازمة تجاه التوغلات التركية المتكررة”.
وأوضح النائب عنوز أن "موقف حكومة إقليم كردستان لا يقل أهمية عن الموقف الاتحادي"، مشيرًا إلى أن “التعامل مع هذه القضية يجب أن يكون وطنياً شاملاً، لا أن يُترك ضمن حسابات محلية أو إقليمية”.
وفي ما يتعلق بدور البرلمان، قال عنوز إن “مجلس النواب يعاني من حالة شلل بسبب غياب عدد من النواب، رغم وجود قوانين جاهزة للتصويت”، مضيفًا أن “هذا التعطيل يجعل من الصعوبة الدعوة إلى جلسة خاصة لمناقشة الموقف التركي أو استضافة الحكومة لعرض موقفها أمام ممثلي الشعب”.
وتابع بالقول: “من المفترض أن تضع الحكومة كل المعطيات أمام مجلس النواب والشعب العراقي، لكن واقع الحال لا يعكس وجود فهم حقيقي لطبيعة النظام النيابي ودوره في مراقبة السياسات الخارجية”.
وختم النائب محمد عنوز تصريحه بالتأكيد على أن “استمرار الصمت الرسمي إزاء التمديد التركي يضع علامات استفهام كبيرة حول جدية الدولة في حماية سيادتها، ويُفقد المواطنين الثقة بمؤسساتهم الدستورية وقدرتها على مواجهة التحديات الخارجية التي تمس الأمن الوطني”.
تجاوز خطير
بدوره، أشار الخبير الأمني عدنان الكناني الى أن طلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من البرلمان التركي تمديد بقاء القوات التركية في شمال العراق، دون العودة إلى الحكومة العراقية، يمثل تجاوزاً واضحاً على السيادة الوطنية وتجاهلًا متعمّدًا لإرادة الدولة العراقية.
وقال الكناني في حديث لـ"طريق الشعب"، إن “أردوغان لم يطلب موافقة الحكومة العراقية، بل وجّه طلبه إلى البرلمان التركي مباشرة، وكأن العراق مجرد تابع للقرار التركي، وهذا انتقاص خطير من هيبة الدولة العراقية وسيادتها”.
وأضاف انه “يبدو أن أنقرة تتعامل مع وجودها العسكري في العراق كأمرٍ مفروغٍ منه، وعلى جميع الوطنيين الوقوف موقفاً موحداً لمساءلة الحكومة: ما هو موقفها من هذا التمديد التركي؟”.
وأشار الكناني إلى "ضرورة إعادة النظر في مواقف الحكومات السابقة التي تغاضت عن الخروقات التركية المتكررة"، متسائلًا: “لماذا تم السكوت عن انتهاكات أنقرة؟ ومن هم الذين تواطؤوا أو جاملوا على حساب العراق؟ يجب رفع الكارت الأحمر بوجه كل من تستر على هذه الخروقات”.
وانتقد الكناني الصمت الحكومي والنيابي إزاء التمديد التركي، معتبراً أن “هذا الصمت يعكس غياب الإرادة السياسية الحقيقية للدفاع عن السيادة”، داعياً رئيس الوزراء ووزارة الخارجية إلى اتخاذ مواقف شفافة وواضحة والكشف عن المستور في العلاقات العراقية – التركية.
وأكد الكناني أن "الادعاءات التركية المتعلقة بحزب العمال الكردستاني ليست سوى ذرائع"، مشدداً على أن “التمديد الأخير دليل دامغ على وجود أطماع تركية داخل الأراضي العراقية، لا علاقة لها بالحجج الأمنية المعلنة”.
وكشف الكناني أن "تركيا تمتلك وجوداً استخبارياً وعسكرياً عميقاً داخل الأراضي العراقية منذ سنوات"، موضحاً أن “أنقرة أنشأت عام 2016 محطة استخبارية في منطقة بعشيقة بعمق أكثر من 220 كيلومترًا داخل العراق، إضافة إلى محطات أخرى في كركوك”.
وأضاف أن “تركيا عملت كذلك على كسب بعض العراقيين ومنحهم الجنسية التركية، في إطار مشروع توسعي يهدف إلى إحياء ما تسميه ولاية الموصل والعودة إلى ما قبل اتفاقية لوزان لعام 1923”.
وبيّن الكناني أن "القيادة التركية تسعى لإعادة النفوذ العثماني القديم في المنطقة بالتنسيق مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، بعد أن قدمت أنقرة تنازلات سياسية كبيرة في سبيل الحصول على دعم يعزز مشروعها التوسعي".
وختم الكناني بالقول: “ما يجري اليوم ليس صدفة، وإنما هو جزء من مشروع واسع لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، تمهيدًا لتقسيم المنطقة تحت ذرائع زائفة، وهو مشروع يهدد الأمن القومي العراقي والاقليمي على حد سواء”.