كما هو الحال مع كل انتخابات، تحولت الحملات الدعائية للانتخابات في العراق إلى ساحة مفتوحة لتجاوز القوانين، في ظل تصاعد حجم الإنفاق المالي وضعف الإجراءات الرادعة بحق المخالفين.
فيما لا تزال القوانين عاجزة عن ضبط إيقاع المنافسة، فان الغرامات التي تفرضها المفوضية بموجب القانون، ما زالت محدودة الأثر، لا تتناسب مع حجم الإنفاق الانتخابي الهائل لبعض المرشحين والأحزاب، لتتحول العملية الدعائية إلى سباق غير متكافئ تحكمه قوة السلطة والمال والنفوذ.
اخلال بمبدأ تكافؤ الفرص
يرى مراقبون ان هذه العقوبات باتت عاجزة عن ردع وتحقيق العدالة بين المرشحين، إذ تُعدّ مبالغها بسيطة مقارنة بما ينفقه أصحاب رؤوس الأموال والأحزاب النافذة، وفي ظل هذا الواقع، تتصاعد الدعوات إلى مراجعة شاملة لمنظومة العقوبات الانتخابية لضمان عدالة المنافسة وردع المخالفين.
غرامات تشجع على تكرار المخالفات!
في هذا الصدد، تؤكد رئيسة منظمة تموز المختصة بالشأن الانتخابي، فيان الشيخ علي، أن المخالفات الانتخابية التي ترافق الحملات الدعائية ليست جديدة، لكنها تفاقمت هذا العام بسبب تراكمات السنوات السابقة وضعف العقوبات المقررة.
ونوهت في حديث لـ"طريق الشعب"، الى أن الحملات الدعائية للانتخابات الحالية شهدت مخالفات واسعة، سواء من حيث التوقيت الرسمي لانطلاقها أو في ما يتعلق بظهور دعايات مبكرة قبل المدة المحددة قانوناً.
وأوضحت الشيخ علي، أن الغرامات "لم تؤدِّ إلى أي أثر رادع بسبب ضعفها وبساطتها، الأمر الذي شجع الكثير من القوى السياسية ورجال الأعمال على تجاوز التعليمات دون اكتراث كون الغرامات تعتبر يسيرة ويسهل تحمل تكلفتها".
وأضافت أن “الأموال الطائلة المرصودة من قبل أحزاب السلطة والداعمين السياسيين جعلت مبالغ الغرامات غير ذات قيمة بالنسبة لهم، ما أفقد العقوبات هدفها الحقيقي في تحقيق الردع وتكافؤ الفرص بين المرشحين”.
وشددت رئيسة منظمة تموز على أن “هذا الخلل يتطلب معالجة قانونية من خلال تعديل قانون الانتخابات، وتشديد أنظمة المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لتصل إلى مستوى العقوبة الرادعة فعلاً”.
وبيّنت الشيخ علي، أن “الانتخابات الحالية تُعدّ من أكثر الدورات التي شهدت مخالفات في مجال الدعاية الانتخابية، سواء من حيث حجم الإنفاق أو تنوع أشكال التجاوزات”، لافتةً إلى أن “اتساع عدد المرشحين وشدة التنافس بين الكيانات السياسية ساهما في استغلال موارد الدولة والمال العام والأنشطة الحكومية لصالح الدعاية الانتخابية”.
وختمت حديثها بالقول إن “غياب العدالة في فرض العقوبات أسهم في تعميق الفوارق بين المرشحين، فبينما تُصرف المليارات على حملات مخالفة، يُعاقَب آخرون بمستوى مماثل رغم محدودية مخالفاتهم”.
يجب ربطها بسقف الإنفاق
من جانبه، يرى الخبير الانتخابي دريد توفيق أن الغرامات الحالية “تفتقر للعدالة والتناسب” لأنها موحدة رغم اختلاف القدرات المالية بين المرشحين، ما يجعلها بلا أثر على أصحاب المال السياسي، ومجحفة بحق المرشحين محدودي الإنفاق.
وقال توفيق في حديثه مع "طريق الشعب"، أن “قانون الانتخابات رقم (4) لسنة 2023 منح المفوضية صلاحية فرض الغرامات على المخالفين، لكن المشكلة تكمن في أن حجم الإنفاق يختلف من مرشح إلى آخر، ما يجعل الغرامة بلا تأثير يُذكر بالنسبة لمن يمتلك موارد مالية ضخمة، في حين تكون مؤثرة على المرشحين ذوي الإمكانات المحدودة”.
وأضاف أن “الخلل ليس في أداء المفوضية، فهي جهة تنفيذية للقانون وليست مشرّعة له، ولكن الخلل في نصوص القانون نفسها التي تحتاج إلى تعديل يضمن انسجام العقوبات المالية مع سقف الإنفاق الانتخابي لكل مرشح”.
وبيّن أن “من الممكن اعتماد معادلة عادلة، تقوم على أساس إقرار المرشح بسقف الإنفاق الذي يعتزم صرفه خلال حملته الانتخابية، لتكون الغرامة نسبة مئوية من هذا السقف، وبذلك تتحقق المساواة في حجم العقوبة وتأثيرها”.
وختم بالقول إن “البرلمان هو الجهة المعنية بتعديل قانون الانتخابات، لكن ما جرى في الدورات السابقة يُظهر أن التعديلات في كل دورة تُصاغ بما يخدم مصالح القوى الفائزة، ويضمن استمرار نفوذها في الانتخابات اللاحقة”.
حجم الانفاق على الدعاية
بدوره، قدّر الخبير الاقتصادي منار العبيدي، حجم الإنفاق على الدعايات الانتخابية في العراق بأنها لا تقل عن قرابة اربعة تريليونات دينار، واصفا هذا المبلغ بـ"الضخم" مما يتطلب من الجهات المعنية متابعته على اعتبار أن بعض هذه الأموال قد تكون "غير مشروعة أو ذات مصادر مجهولة".
وقال العبيدي في منشور له على مواقع التواصل "فيسبوك"، إنه لا تتوفر بيانات دقيقة حول الحجم الفعلي للحملات الانتخابية في العراق، إلا أن تقديرات أولية تستند إلى عدد المرشحين وحجم الإعلانات التقليدية والرقمية تشير إلى أن إجمالي الإنفاق الانتخابي لا يمكن أن يقل عن 3 تريليونات دينار عراقي وفق نظرة متحفظة جدًا، وربما يتجاوز هذا الرقم بكثير في الواقع".
وأضاف أن "المشهد المالي للحملات يبدو خارج السيطرة، ومع هذا الصخب الإعلامي والإنفاق الضخم، تغيب مؤشرات واضحة عن مصادر التمويل، وطرق الصرف، والجهات الممولة".
وأشار العبيدي الى أن "تُعد كلاً من المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، ومكتب مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التابع للبنك المركزي، وهيئة النزاهة، وديوان الرقابة المالية الاتحادي، وهيئة الإعلام والاتصالات من أبرز الجهات الرقابية المسؤولة عن متابعة هذا الملف الحساس".
ووفقا للخبير الاقتصادي، فإن "المفوضية وبحسب قانون الانتخابات رقم (9) لسنة 2020، مُلزمة بتدقيق مصادر تمويل المرشحين وأوجه إنفاقها، بينما يتولى مكتب مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب تحليل وتتبع أي أموال يُشتبه في كونها غير مشروعة أو ذات مصادر مجهولة، استنادًا إلى قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم (39) لسنة 2015".
وتنص المادة (4/ثالثًا) من مكافحة غسل الأموال على أن من مهام المكتب: "تسلم وتحليل البلاغات والمعلومات المتعلقة بالعمليات التي يُشتبه في كونها متعلقة بغسل الأموال أو تمويل الإرهاب أو أي جرائم أصلية ذات صلة، واتخاذ الإجراءات المناسبة بشأنها بالتنسيق مع الجهات القضائية والأمنية والرقابية المختصة"
إلى جانب ذلك، تمارس هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية دورا رقابيا في تتبع الأموال العامة التي قد تُستغل لأغراض سياسية، فيما تراقب هيئة الإعلام والاتصالات الحملات الإعلامية والإعلانية للتحقق من شفافية تمويلها وعدم توظيف موارد الدولة فيها.
وخلص العبيدي بالقول إن "ما يجري يستدعي وقفة جادة ومسؤولة لإعادة الأمور إلى مسارها الطبيعي، من خلال تشريع واضح يلزم الأحزاب والجهات السياسية بالكشف عن مصادر تمويلها وآليات إنفاقها الانتخابي، وضمان خضوعها لرقابة مالية وقانونية تضمن الشفافية وتمنع استخدام المال السياسي في التأثير على إرادة الناخبين".