اخر الاخبار

في العراق، يظل حجم الثروات الحقيقية للأفراد والشركات مجهولاً إلى حد كبير، وسط غياب الشفافية المالية والرقابة على الإيرادات غير النفطية. هذا الغموض المالي يثير تساؤلات حول توزيع الثروات، ومصادرها، وأثرها على الاقتصاد الوطني والمجتمع، في بلد يمتلك موارد كبيرة، لكنه يفتقد بيانات دقيقة تكشف الصورة كاملة.

وفي هذه الجزئية أكد مختصون أن غياب السجلات المالية الدقيقة، وعدم التمكن من تتبع الأموال، يجعل من الصعب معرفة الثروات الفعلية للاثرياء، ويترك الفرصة واسعة للتقديرات والتحليلات التي غالباً ما تبقى ناقصة أو غير دقيقة.

هذا وتشير دراسات  وتقارير مختلفة إلى أن هناك أصولاً عراقية ضخمة "مفقودة" أو منقولة خارج البلاد، حيث يُقدّر أن هناك على الأقل 50 أصلاً كبيراً بالخارج لا تُعرف تفاصيلها. كما تشير التقديرات إلى أن حوالي 250 مليار دولار قد تكون "ضاعت" أو سُرّبت من موارد الدولة خلال العقدين الماضيين.

وتكشف بيانات أخرى عن ضعف مستوى الإفصاح المالي في الشركات العراقية، إذ بلغت نسبة الشفافية في التقارير السنوية لـ 30 شركة مدرجة نحو 42٪ للفترة 20132017، ما يعكس محدودية المعلومات المتاحة حول حجم الأصول والاستثمارات.

كما يُشير معامل جيني للدخل لعام 2023 إلى مستوى تفاوت ملحوظ، حيث بلغ حوالي 29.8، ما يدل على وجود فجوة في توزيع الدخل والثروات بين شرائح المجتمع المختلفة

غياب الشفافية المالية

في هذا الصدد، قال الباحث في الشأن الاقتصادي نبيل التميمي، أن هناك فئة من الأثرياء العراقيين المعروفين بأعمالهم واستثماراتهم على الأرض، مثل مستثمرين في محطات الطاقة الكهربائية في كردستان وبغداد، وأصحاب مشاريع إسكانية وشركات مقاولات، ولهم حضور اقتصادي بارز.

وأشار في حديثه مع "طريق الشعب"، إلى أنه حتى الحكومة العراقية أبدت اهتماماً بهذه الشخصيات، من خلال زيارات رسمية لواشنطن ونيويورك، لتعريف مسؤولي الدول الأجنبية برجال الأعمال والمستثمرين العراقيين البارزين.

ورغم وضوح أسماء هؤلاء المستثمرين وأعمالهم، أكد التميمي أن "حجم ثرواتهم الفعلية غير معروف بشكل دقيق"، مبيناً  أن "الدولة نفسها لا تمتلك بيانات دقيقة عن أصولهم المالية، ما يجعل من الصعب تقدير مقدار الثروات الحقيقية".

واضاف ان "السياسيين كذلك لا يكشفون عن حجم ثروتهم و مصادر أموالهم بنفس الطريقة، كونها  مرتبطة بمكاسب من المال العام، مما يزيد من تعقيد تقدير الثروات".

وأضاف التميمي أن هذا الوضع مرتبط بعدة عوامل، منها "عدم وجود شفافية مالية كافية، وصعوبة تتبع الأموال في ظل بعض ممارسات التهرب الضريبي وغسيل الأموال، والتي تعمل على إخفاء الأرقام الفعلية للأثرياء".

وأشار التميمي إلى أن المعلومات المنتشرة غالباً مستمدة من تقارير تقديرية، لكنها ليست رسمية ولا يمكن الاعتماد عليها كونها غير دقيقة، وتُستخدم لأغراض تحليلية عامة فقط او اثارة الرأي العام".

وأكد أن التعامل مع هذه البيانات يجب أن يكون بحذر، مع الاستناد إلى أسس علمية لتقديراتها، بعيداً عن الشائعات أو التداولات غير الموثوقة على وسائل التواصل الاجتماعي.

وختم التميمي بالقول إن معرفة حجم الثروات الحقيقية في العراق تتطلب وجود بيانات دقيقة وشفافة من الجهات الرسمية، وهو ما لا يتوافر حالياً، ما يجعل تقديرات الثروات غير محددة ويزيد من أهمية متابعة التطورات الاقتصادية والسياسات المالية المتعلقة برجال الأعمال والمستثمرين وتطوير عمل هيئة الضرائب والنزاهة".

الإيرادات غير النفطية خارج الرقابة

من جانبه، أكد المحلل الاقتصادي علي محسن أن توزيع الثروة المنقولة وغير المنقولة في العراق لا يشير إلى وجود معدلات ثراء فاحش بين الأفراد، وأن سوق العمل المحلي لا يقدم معلومات دقيقة عن الدخول والأصول.

واكد لـ"طريق الشعب"، ان "هذا بحد ذاته يثير تساؤلات حول مصادر دقة البيانات التي تنشرها الصحافة الدولية حول الأثرياء العراقيين". وأوضح محسن أن العراق يعاني مما يمكن وصفه بـ “ثقافة مالية مظلمة”، حيث تبتلع منظومة الدولة ألوان المال المختلفة، ولا تظهر سوى الأرقام الجزئية التي تتسرب إلى التداول العام. وأضاف أن التهرب الضريبي وغسيل الأموال يمثلان أحد الأسباب الرئيسة لإخفاء حجم الثروات الفعلية، لكنه أشار إلى أن المشكلة أعمق من حلقة مفقودة واحدة، وأن هناك عدة حلقات مرتبطة ببنية الاقتصاد والرقابة المالية في البلاد. وأشار محسن إلى أن "الإيرادات غير النفطية قد تكون المصدر الرئيس لجزء كبير من هذه الأموال، كونها غالباً خارج نطاق الرقابة الدولية، ومع استمرار العجز في قدرة الدولة على ضبط هذه الإيرادات، يصبح مصيرها غير معروف، ما يعزز الشكوك حول استقرارها في أي خزينة رسمية". واعتبر في السياق ذاته، أن هذا الواقع "يفسر جزئياً سبب صدور تقارير دولية تحاول تقدّير ثروات الأثرياء العراقيين، رغم نقص البيانات الرسمية". وخلص إلى أن غياب آليات الرقابة والمتابعة الفعلية في العراق يجعل من الصعب معرفة الحجم الحقيقي للثروات، ويؤكد الحاجة الماسة لتعزيز الشفافية المالية وإنشاء سجلات دقيقة للأصول والاستثمارات على مستوى الدولة.