ضمن فعاليات مهرجان "طريق الشعب" العاشر، أقيمت ندوة حوارية موسعة تحت عنوان "الانتخابات البرلمانية.. إحدى وسائل التغيير"، ناقشت العديد من القضايا الجوهرية المرتبطة بالانتخابات النيابية المقبلة، وطرحت تساؤلات مهمة حول مدى قدرة المشاركة الشعبية على إحداث التغيير الحقيقي، وصناعة الإصلاحات المنشودة في العراق.
شارك في الندوة كل من: الدكتور عبد الجبار أحمد، الكاتب والصحفي فلاح المشعل، وعضو اللجنة المركزية للحزب الرفيق بهجت الجنابي، وادارها الرفيق أيوب عبد الحسين، حيث قدموا رؤى متعمقة حول طبيعة العملية الانتخابية والواقع السياسي في البلاد، مركّزين على التحديات البنيوية والممارسات السائدة التي تؤثر في فاعلية هذه الانتخابات.
مقدمات خاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة
وأكد الدكتور عبد الجبار أحمد أن أي تحليل للنتائج الانتخابية يجب أن يبدأ من الأسس والمقدمات التي تقوم عليها الانتخابات، مشيرًا إلى أن معظم الانتخابات السابقة كانت مبنية على مقدمات خاطئة سواء في الإجراءات، أو القانون الانتخابي، أو آلية توزيع الدوائر، أو حتى أسلوب عدّ الأصوات.
وقال الدكتور أحمد أن هذه الأخطاء الجوهرية تؤدي في النهاية إلى نتائج مشوهة لا تعكس إرادة الناخبين الحقيقية.
وأشار إلى أن الانتخابات هي جزء من العملية الديمقراطية وليست كل شيء، حيث إن المنظومة السياسية الأكبر والآليات الأخرى المرتبطة بالحكم هي التي تحدد الإنجاز الفعلي على الأرض.
الانتخابات البرلمانية: أداة أم غاية؟
وتساءل أحمد عن مدى كون الانتخابات البرلمانية في العراق سياسية عامة أم مكوناتية، مشيرًا إلى أن تشكيل الرئاسات الثلاث أوجد نمطًا توافقيًا قد يُرضي أطرافًا معينة لكنه في الوقت نفسه يضعف الأسس الديمقراطية للانتخابات.
وأضاف أن المرشحين الذين يروّجون لمشاريع الدولة القوية، غالبًا ما ينخرطون بعد فوزهم، في تحالفات مكوناتية، وبالتالي يتم تحويل الأصوات المخصصة لمشروع الدولة إلى خدمة مصالح زعامات محلية ومكونات سياسية.
وشدد على أن الحزب الشيوعي العراقي أو الأحزاب المدنية الديمقراطية، هي القوى الوحيدة القادرة على إحداث التغيير الحقيقي.
المادة 76 وتشكيل الحكومة
وأشار أحمد إلى أن المادة 76 من الدستور الخاصة بتفسير الكتلة الاكبر تشكّل أحد أبرز العقبات أمام الانتخابات النزيهة، لأنها تتحدث عن كتلة اجتماعية مكوناتية وليس عن مشروع سياسي حقيقي.
وأوضح أن هذا المنظومة سمحت بتولي بعض رؤساء الحكومات للمناصب العليا دون فوز حقيقي في الانتخابات، أو بحصولهم على عدد محدود جدًا من المقاعد، مؤكداً أن هذه المادة تخدم مصالح القابضين على السلطة والموارد الاقتصادية والسلاح، وليس مصالح المواطنين أو مشاريع الدولة المستقلة.
المشاركة والمقاطعة: أيهما يحقق التغيير؟
وتطرّق احمد إلى موضوع المشاركة الانتخابية والمقاطعة، موضحًا أن كلا الخيارين لا يستطيع وحده تغيير المنظومة السياسية الحالية، إذا لم يترافق مع إصلاحات حقيقية لإزالة تأثير المال السياسي والسيطرة الاقتصادية والعسكرية.
وأكد أن الانتخابات يجب أن تكون وسيلة لتغيير الوجوه والبرامج والحكومة، وليس مجرد استبدال الأقنعة، موضحا أن التركيز على الانتخابات كغاية بحد ذاتها يؤدي إلى تحويل العملية الديمقراطية إلى صراع زعاماتي مكوناتـي يهمش صوت الشعب والمشاريع السياسية الوطنية.
وأشار أحمد إلى أن المال السياسي والسلاح والسلطة التنفيذية تشكّل عناصر ضغط قوية تؤثر في نتائج الانتخابات، ما يجعل العملية الانتخابية غير عادلة ويميل التنافس لصالح المرشحين المهيمنين.
وأضاف أن الكتلة الأكبر في البرلمان تعتبر كتلة اجتماعية وليست تحالفًا سياسيًا، وبالتالي لا يمكن تحقيق أي تغيير جذري دون تعديل المادة 76 من الدستور وتغيير توزيع الموارد الاقتصادية والسياسية.
وختم أحمد حديثه بتسليط الضوء على أن تعريف الدولة الحقيقي في العراق هو الاحتكار الرسمي للقوة، وأن مشاريع تقوية الدولة غالبًا ما تكون وهمية، بسبب ممانعة القابضين على السلطة على تعزيز مؤسسات الدولة الحقيقية، مشددا على أن الدولة لا يمكن أن تتطور أو تتحسن إذا بقيت البُنى التحتية السياسية والاقتصادية والسلاح تحت سيطرة المكونات والزعامات الحاكمة.
غموض وتأويل
من جانبه، أكد الكاتب فلاح المشعل أن الانتخابات العراقية الحالية تواجه تحديات كبيرة تتعلق بالدستور والعملية السياسية، موضحًا أن المادة السادسة والسبعين من الدستور، التي تنص على أن الكتلة الأكبر التي تفوز في الانتخابات تُكلَّف بتشكيل الحكومة، تنطوي على غموض كبير وقابلية للتأويل، ما يفتح المجال لمشكلات تطبيقية حقيقية.
وأشار المشعل خلال حديثه إلى أن هذه المادة الدستورية "عائمة"، معتبرا أن الدستور جامد وغير مفصل، ولا يوضح الإجراءات الدقيقة لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات، ما يترك المجال لتفسير هذه المادة بشكل يحدّ من حقوق الفائزين، حتى عند حصولهم على أكبر عدد من المقاعد.
وأوضح أن العملية السياسية خلال ثلاث وعشرين سنة لم تنتج دولة قوية، بل سلطات متفرقة تسيطر عليها الأحزاب والميليشيات وأصحاب النفوذ، بينما ضاع حلم بناء الدولة العراقية بعد عام 2003، وتحولت السلطة إلى أدوات للنفوذ والمصالح الخاصة.
وأضاف أن هذه الأحزاب لم تُجرِ أي مراجعة حقيقية لتجربتها السياسية، سواء على المستوى السياسي أو المالي والإداري، ما يفاقم الإشكالية ويضعف ثقة المواطنين في العملية الانتخابية.
وفيما يتعلق بالانتخابات نفسها، أكد المشعل أن الانتخابات الحالية لم تعد مرتبطة بمشروعية الواقع العراقي، بل أصبحت "عملية سياسية تُفرز نتائج صراع قديم بين الكتل"، مشيرًا إلى أن الصراع اليوم أصبح داخل كل كتلة، سواء الشيعية أو السنية، حيث تتصارع الأطراف على السلطة بعيدًا عن البرامج الانتخابية الحقيقية.
وقال إن الحصول على أكبر عدد من المقاعد يتطلب هدر الأموال العامة، سواء في الحملات الإعلامية أو الدعايات، مؤكداً أن هذه الأموال تأتي غالبًا من القطاع العام حيث يعاد ضخها لشراء الأصوات والذمم، ما يجعل الانتخابات صراع رؤوس وأموال فقط.
وأوضح المشعل أن موقف الحزب الشيوعي من المشاركة في هذه الدورة محسوب بدقة، لأنه يكشف مدى ارتباط الحزب بعناصره وبالشارع والمجتمع، ويتيح تقييم أثر المقاطعة السابقة، ويحدد عدد الشخصيات المستقلة والقادرة على الصعود تحت عنوان الحزب أو ضمن تحالف البديل الذي يشكّل الحزب قوامه الرئيسي.
وأكد المشعل أن الانتخابات الحالية لن تُحدث تغييرًا جديا أو مؤثرًا في الحياة الاجتماعية العراقية، مشيرًا إلى أن القانون الانتخابي مصمم على مقاس الكتل الكبيرة، وأن المسار الديمقراطي الحقيقي يتطلب فتح المجال أمام الجميع دون احتكار.
وأشار إلى غياب التشريعات التي تضمن للمواطن حق الوصول إلى البرلمان والتعبير عن صوته بحرية، وعدم وجود آليات لمحاسبة النواب أو الوزراء بعد انتهاء الدورة، ما أدى إلى تفشي الفساد وإهدار المال العام، محذرًا من أن العملية السياسية تحولت إلى "غابة مفتوحة للنهب بلا رقيب ولا حسيب".
وفي ختام حديثه، شدد المشعل على أهمية دعم تحالف البديل والديمقراطيين المستقلين، موضحًا أن وصول ثلاثة إلى خمسة نواب من هذه القوائم إلى البرلمان سيشكل كتلة مؤثرة، قادرة على ممارسة الضغط والحوار الجاد مع الحكومة والبرلمان، وتقديم صوت شعبي حقيقي يمثل المواطنين ويحقق تغييرات ملموسة في العملية السياسية العراقية.
تحديات جوهرية
بدوره، أكد بهجت الجنابي، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، أن الانتخابات البرلمانية في العراق تواجه تحديات كبيرة ما يصعب من مهمتها كونها احدى وسائل التغيير السياسي والاجتماعي في البلاد.
وأشار الجنابي إلى أن نجاح القوى المدنية لا يُقاس فقط بعدد المقاعد التي تُحصَل في البرلمان، مبينًا أنهم شاركوا في عدة انتخابات، وكان لديهم حملات واسعة وأصوات معتبرة، ولكن عدم وصولهم للبرلمان لا يعني فشل المشروع، لأن عملية التغيير في مفهومهم تشمل طرح المشروع السياسي والمجتمعي، وبناء العلاقات مع الناس، ونشر الثقافة السياسية والوعي العام.
واختتم الجنابي حديثه بالقول إن الانتخابات يمكن أن تكون وسيلة مناسبة لنشر الوعي السياسي والتفاعل المجتمعي الحقيقي، وليس مجرد سباق للحصول على مقعد نيابي، مؤكدًا أن المشاركة الواعية تعكس مدى ارتباط القوى المدنية بالمجتمع وفاعليتها في تعزيز الوعي السياسي وبناء مشروع بديل حقيقي داخل البرلمان.