بينما تقترب البلاد من نهاية عام آخر بلا موازنة، تبدو الدولة وكأنها تدير اقتصاداً لبلد نفطي كبير بعقلية “اليوم بيومه”، في أخطر مشهد مالي تشهده البلاد منذ سنوات.
فالحكومة تعمل بلا رؤية مالية، والبرلمان عاجز عن فرض رقابته، والإنفاق العام يجري بلا سقف واضح ولا أولويات. فيما تتراجع أسعار النفط ويعلو منحنى الديون الداخلية إلى مستويات غير مسبوقة.
سيناريوهات متوقعة قاسية
ورغم أن الموازنة تُعد في كل دول العالم بوصلتها الاقتصادية، لكن تحوّل غيابها وجداولها وحساباتها الختامية في العراق إلى عرف خطير، يؤكد هشاشة الإدارة الاقتصادية، ويعرّي منظومة التخطيط المالي للدولة.
وفي هذا الصدد، يؤكد مختصون ان العراق، اليوم، يقف أمام فراغ مالي لا يمكن تبريره ولا تحمّل تبعاته، فيما حذروا من سيناريوهات أشد قسوة قد تصل إلى عجز الدولة عن دفع الرواتب إذا استمرت الفوضى المالية وتعمّق غياب القرار.
مخاطر اقتصادية جادة
في هذا الصدد، حذّر الخبير الاقتصادي أحمد عبد ربه من أن انتهاء العام الحالي دون إقرار الموازنة العامة وحساباتها الختامية يشكّل “خللاً كبيراً” في هيكلية الاقتصاد، مؤكداً أن تلك الحسابات تمثل الإطار الأساس لمعرفة حجم الإنفاق والإيرادات وتنظيم السياسة المالية للدولة.
واضاف لـ"طريق الشعب"، أن "تراجع أسعار النفط خلال المدة الماضية وعدم استقرارها كانا من العوامل التي دفعت الحكومة إلى تأجيل إرسال مشروع الموازنة"، معتبراً ذلك “أمراً غير مبرّر”، وداعياً مجلس النواب إلى القيام بدوره الرقابي والتشريعي لمعالجة هذا الخطأ المتكرر في عمل الحكومات السابقة.
وتابع أن "عدم إرسال الموازنات في مواعيدها بات عرفاً غير صحي، يجب إنهاؤه، كما ان استمرار إدارة الدولة من دون موازنة أو حسابات ختامية يعبّر عن خلل واضح في الإدارة الاقتصادية".
وأشار عبد ربه إلى وجود "مخاطر اقتصادية جدية في الأفق، أبرزها استمرار انخفاض أسعار النفط يوماً بعد يوم، ما يعني تراجعاً متوقعاً في إيرادات الدولة وموازناتها، في وقت تجاوزت فيه الديون الداخلية للحكومة 90 تريليون دينار، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ البلاد".
وأكد أن المشهد الاقتصادي يعاني من “ضعف واضح في التنسيق بين السياسة النقدية والمالية”، الأمر الذي فاقم الأزمات الحالية، محذراً من أن "تجاهل هذه المشكلات قد يقود البلاد إلى مرحلة تعجز فيها الحكومة حتى عن تأمين رواتب الموظفين".
الرؤية المالية للدولة لا تزال غائبة
من جهته، اكد أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي أن انتهاء عام 2025 من دون إقرار الموازنة العامة يشكل “منعطفاً خطيراً” في مسار الاقتصاد العراقي، لما يحمله من تداعيات مباشرة على الإنفاق العام وحركة الاستثمار، ولايمكن اعتباره مجرد تأخير او خلل إداري.
وقال السعدي في حديث مع "طريق الشعب"، إن غياب الموازنة يعني "لجوء الدولة إلى الصرف الشهري المحدود، وهو ما يؤدي إلى تجميد المشاريع الاستثمارية وتعطيل الدورة الاقتصادية المرتبطة بالبنية التحتية وفرص العمل، إضافة إلى انعكاسه السلبي على القطاع الخاص الذي يعتمد بدرجة كبيرة على الإنفاق الحكومي، وما يترتب على ذلك من تراجع الاستثمارات وتعطل العقود القائمة والجديدة".
ونبه إلى أن "الاستمرار بالإنفاق دون وجود سقف مالي واضح يرفع من مخاطر توسع العجز المالي، خصوصاً في ظل الضغوط المتزايدة على أسعار النفط وإيرادات الدولة".
وذكر أن المؤسسات الدولية، بما فيها صندوق النقد الدولي، "حذّرت خلال هذا العام من اتساع فجوة العجز في العراق وضرورة الحد من الإنفاق غير المنتج. ومع غياب الموازنة، تصبح قدرة الدولة على التحكم بالعجز “شبه مستحيلة”، مما قد يدفعها نحو خيارات مثل الاقتراض أو التمويل التضخمي، بما يحمله ذلك من مخاطر على الاستقرار النقدي وسعر الصرف والاحتياطيات الأجنبية".
وزاد بالقول: إن تأخر إقرار الموازنة "يضعف ثقة المستثمرين المحليين والأجانب بقدرة الدولة على الالتزام بخططها وبرامجها التنموية، في وقت يحتاج فيه العراق إلى بيئة اقتصادية مستقرة لتشجيع الاستثمار وتنويع موارده بعيدًا عن النفط".
ورأى أن عدم إقرار الموازنة يرسل “إشارة سلبية” بأن الرؤية المالية الموحدة للدولة ما تزال غائبة.
واختتم حديثه بالقول إن "استمرار هذا الفراغ المالي قد يقود إلى اتساع الدين العام، وتراجع السيولة، وارتفاع تكلفة الاقتراض، فضلًا عن احتمالات الدخول في حالة ركود خلال العامين المقبلين"، مؤكداً أن "الموازنة ليست وثيقة مالية فحسب، إذ تعتبر خارطة طريق تحدد أولويات الدولة وتوجهاتها الاقتصادية والاجتماعية، وغيابها يعني غياب البوصلة التي يفترض أن توجه الاقتصاد العراقي في مرحلة حساسة".
خلل في التخطيط
الى ذلك، قال الباحث في الشأن الاقتصادي نبيل التميمي أن غياب الموازنة العامة لعام 2025 يضع الدولة أمام إشكالية قانونية وإدارية معقّدة، مبيناً أن الموازنة تمثل “السند القانوني الأساس للصرف”، وأن إقرار الموازنة الثلاثية السابقة جرى من دون تثبيت أرقام وجداول تخص السنة الثالثة، ما جعل عام 2025 فعليًا بلا غطاء مالي معتمد.
واضاف التميمي في حديث مع "طريق الشعب"، أن هناك "خلافاً جوهرياً بين الحكومة والبرلمان بشأن الإطار القانوني الذي تستند إليه عملية الصرف الحالية".
واشار إلى أن الحكومة "تواصل الإنفاق، لكن يبقى السؤال: هل يجري الصرف وفق مبدأ (12/1) المنصوص عليه في قانون الإدارة المالية للدولة، أم وفق ما يتوافر لديها من أموال فعلية؟"، مضيفاً أن "أي جهة متضررة أو ترى وجود تجاوز على القانون يمكنها اللجوء إلى القضاء لحسم هذا الموضوع”.
وأكد التميمي أن "غياب الموازنة أو وجودها قد لا يحدث فرقاً كبيراً في طبيعة الإنفاق، نظراً لاعتماد العراق على الإيرادات الريعية النفطية التي تُوجّه أساساً لتغطية النفقات التشغيلية".
وبيّن أن حجم الإنفاق التشغيلي السنوي يتراوح عادة بين 90 و100 تريليون دينار في ظل غياب الموازنة، بينما قد يرتفع إلى نحو 110 تريليونات دينار في حال وجودها.
وشدد التميمي على أن "الحكومة تمتلك في كل الأحوال سنداً قانونياً للصرف يتمثل في مبدأ 12/1 الوارد في قانون الإدارة المالية رقم 6 لسنة 2019، إلا أن بقاء الدولة تعمل وفق هذا المبدأ دون إقرار موازنة يعكس خللًا في التخطيط المالي ويؤجل الحسم في أولويات الإنفاق والاستثمار".