اخر الاخبار

في ظلِّ تفاقم أزمة المياه التي تضرب البلاد منذ سنوات، تتصاعد المخاوف من تأثيرات الاتفاق المائي الأخير بين بغداد وأنقرة، والذي منح تركيا دوراً مباشراً في إدارة الإطلاقات المائية ومشاريع البنية التحتية المرتبطة بها.

ورغم مرور شهور على توقيع الوثيقة التنفيذية للاتفاق الإطاري، تكشف المؤشرات عن غياب أي تحسن فعلي في مناسيب نهري دجلة والفرات، إلى جانب استمرار جفاف الأهوار وارتفاع اللسان الملحي في البصرة.

تنفيذ من طرف واحد!

وفي هذا السياق، كشف مرصد “العراق الأخضر” المتخصص بشؤون البيئة أن الزيارة الأخيرة للوفد التركي إلى وزارة الموارد المائية خُصصت لمناقشة تنفيذ المشاريع داخل العراق فقط، من دون أن تبدي أنقرة استعدادًا لتنفيذ تعهداتها الجوهرية بإطلاق الحصص المائية المقررة.

وأكد المرصد أن هذه المباحثات جرت “من طرف واحد”، في ظل مماطلة تركية واضحة وتجاهل مستمر للبنود التي تُلزمها بزيادة الإيرادات المائية الواردة للعراق.

وتأتي هذه التطورات في وقت تؤكد فيه الحكومة العراقية أن الاتفاق الموقّع مع تركيا يمثل “خطوة تاريخية” لمعالجة النقص الحاد في المياه، بينما تشير الجهات الرقابية والخبراء إلى أن العراق ما يزال ينتظر قطرة الماء الأولى التي كان يفترض أن تطلقها أنقرة بموجب الاتفاق

تنصل عن الاتفاق!

وللتعليق حول الموضوع، أكد رئيس المرصد، عمر عبد اللطيف، أن تنفيذ الاتفاق المبرم بين العراق وتركيا بشأن ملف المياه يجري  كما وصفه التقرير من طرف واحد فقط، وهو الجانب العراقي.

وقال عبد اللطيف لـ"طريق الشعب"، إن "الوفد التركي ناقش مع بغداد بتنفيذ المشاريع المرتبطة بالاتفاق، ولا سيما مشاريع حصاد المياه وإنشاء السدود، في حين لم تُقدم تركيا على أي خطوة منذ توقيع الاتفاق وحتى الآن".

وأضاف أن "جوهر الاتفاق يقوم على مبدأ إطلاق تركيا كمية محددة من المياه مقابل تنفيذ مشاريع داخل العراق"، مثل مشاريع تتعلق بالثروة الحيوانية والاستهلاك الزراعي"، مبيناً أن تركيا "لم تطلق قطرة ماء واحدة في نهري دجلة والفرات منذ بدء العمل بالاتفاق، في حين يستمر العراق وحده في تنفيذ التزاماته".

وتابع أن حالة «الارتياح التركي» ناتجة عن كون أنقرة تمارس منذ عام 2003 ضغوطاً سياسية وأمنية على بغداد لتمرير اتفاقيات تخدم مصالحها، مؤكداً أن العراق لا يمتلك أدوات الضغط نفسها، ووصف الموقف العراقي بأنه «رقبة تحت السيف التركي».

وأشار عبد اللطيف إلى أن تركيا اليوم "في موقع قوة اقتصادياً وسياسياً، إذ ترتبط بأسواق عالمية كبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي، وتصدّر لها منتجات صناعية ومعدنية، بينما لا يمثل العراق بالنسبة لها سوقاً مهماً سوى في جانب السلع الغذائية والاستهلاكية".

وفي ما يتعلق بالمسؤولية عن تدهور ملف المياه، أكد عبد اللطيف أن "الخلل لا يقع على الحكومة وحدها، بل تتحمل القوى السياسية جزءاً كبيراً من المسؤولية، إضافة إلى ضعف الوفد العراقي المفاوض مقارنة بنظيره التركي".

وبيّن أن "تغيير الوفود التفاوضية بشكل مستمر يربك الملف ويُضيّع حقوق العراق، إذ يبدأ كل وفد جديد من نقطة الصفر، بدلًا من متابعة ما تحقق خلال الاجتماعات السابقة".

وشدد على "ضرورة وجود مفاوضين محترفين قادرين على تثبيت أن نهري دجلة والفرات أنهار دولية لا يجوز لأي دولة الانفراد بالتحكم بها".

وفي ختام تصريحه، دعا عبد اللطيف الحكومة العراقية إلى اللجوء إلى "الأمم المتحدة أو مجلس الأمن لتوثيق الخروقات التركية والمطالبة بحقوق العراق المائية وفق الأعراف الدولية"، مؤكداً أن "هذه الخطوة باتت ضرورية لاستعادة جزء من حقوق البلاد في المرحلة المقبلة".

النفط مقابل الماء

من جانبه قال الخبير في مجال المياه، تحسين الموسوي أن الاتفاقية الأخيرة بين العراق وتركيا لم تتطرق مطلقاً إلى الإطلاقات المائية أو تحديد حصة العراق من مياه نهري دجلة والفرات، كما أنها تجاهلت جميع البروتوكولات والمعاهدات الدولية السابقة التي نظمت حقوق العراق المائية.

وقال في حديث لـ "طريق الشعب"، إن "العراق بهذه الاتفاقية سلم إدارة الملف المائي بالكامل إلى تركيا"، معتبراً ذلك "تقويضاً لحقوق العراق القانونية والمستقبلية".

وأضاف أن "الاتفاق تضمن الإشارة إلى مشاريع ري واستصلاح في محافظات الجنوب تُنفذ حصراً من قبل شركات تركية، فضلًا عن إنشاء أربعة سدود تعتمد على الإيرادات الداخلية من السيول والأمطار، وهو ما وصفه بأنه «إضعاف لسيادة العراق على موارده المائية".

وبيّن الموسوي أن الاتفاق "منح الشركات التركية حق التعاقد والتنفيذ داخل العراق، في الوقت الذي حُرم فيه العراق من حقوقه المائية"،  مؤكداً أن هذا التوجه "خاطئ وغير قانوني، خصوصًا وأن أحواض دجلة والفرات أحواض دولية، وقد ثبتت حقوق العراق فيها عبر اتفاقية 1946، ومعاهدة حلب، والاتفاقيات الثلاثية في عهد الانتداب".

وأشار إلى أن "توقف تركيا عن الإطلاقات المائية خلال الفترة الماضية، وتقليلها إلى مستويات متدنية، أدى إلى «تدهور خطير في الملف المائي العراقي، وانعكس على الزراعة والاقتصاد والحياة اليومية".

وأضاف الموسوي أن "ردّة الفعل التركية على الاتفاقية كانت مريحة جداً، لدرجة أن وزير الخارجية التركية وصفها  بالتاريخية".

ولفت الى ان "ربط المشاريع التركية داخل العراق بعقود تُسدد قيمتها من النفط العراقي، يمثل إحياءً لطرح خطير مفاده: النفط مقابل الماء"، مؤكداً أن "أي حكومة عراقية عبر التاريخ لم تقبل بهذا المنطق".

وأوضح أن "الخلل الأساس يعود إلى ضعف الفريق العراقي المفاوض وغياب الرؤية القانونية، متسائلًا عن طبيعة الوفد: هل هو فني؟ هل هو قانوني؟، ووصف المشهد بأنه «ضبابي ومليء بالثغرات".

وأشار الموسوي إلى أن "العراق لم يستثمر حتى الآن علاقاته مع الولايات المتحدة للضغط على تركيا، ولم يطلب وجود طرف ثالث ضامن مثل البنك الدولي أو الاتحاد الأوروبي، كما فعلت دول أخرى في أزمات مشابهة، مثل مصر في ملف سد النهضة، حيث اشترطت أن يكون القانون الدولي مرجعية قبل استئناف التفاوض".

وختم الموسوي بالقول إن "العراق بات ينفذ السياسات التركية، وتنازل عن مفاتيح القوة التي يمتلكها"، معتبراً أن ما حدث يعكس "خللاً داخلياً شديداً، واستعجالاً تحت ضغط الشارع والمزارعين، دون إدراك كامل لطبيعة الاتفاق وخطورته على مستقبل الأمن المائي للبلاد".