اخر الاخبار

غزة: إبادة جماعية

كان هذا السؤال في مركز اهتمام عدد كبير من المحللين السياسيين في المنطقة والعالم خلال الأيام الثلاثة الفائتة، ذلك إن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية شنت في ليلة 30-31 تموز/يوليو الفائت، هجومين، استهدف الأول منهما مبنى سكنياً في ضاحية بيروت الجنوبية وأدى إلى استشهاد سبعة أشخاص وجرح 74، كان من ضمنهم أحد أبرز قادة حزب الله العسكريين وهو فؤاد شكر، واستهدف ثانيهما مبنى ضيافة في قلب العاصمة الإيرانية طهران وأدى إلى استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية وأحد مرافقيه. وقد شكّل هذان الهجومان نقلة نوعية في المواجهة الدائرة بين إسرائيل وقوى "محور المقاومة"، وطرح احتمال اندلاع حرب شاملة في المنطقة، قد تضطر الولايات المتحدة الأميركية إلى الانخراط فيها.

وبحسب بعض التسريبات الصحفية، أرسلت بريطانيا بالفعل، بعد ساعات قليلة على الهجوم الإسرائيلي على ضاحية بيروت الجنوبية، سفينتين حربيتين نحو قبرص، بينما أرسلت الولايات المتحدة أسطولاً صغيراً قبالة الساحل الإسرائيلي، يتكوّن من ثلاث سفن تحمل ما يقرب من 2200 جندي. وفيما وضع حزب الله قواته العسكرية في حالة تأهب، أعلنت إسرائيل حالة التعبئة العامة، واستدعت قوات احتياط وألغت إجازات جنودها وضباطها. وبينما هددت إيران، على لسان المرشد الروحي والحرس الثوري، بالانتقام، أشار المكتب السياسي لحركة "حماس"، إلى أن اغتيال إسماعيل هنية "ستكون له عواقب إقليمية"، وهدد موسى أبو مرزوق، عضو مكتبها السياسي، بأن الهجوم "لن يمر من دون رد".

بيد أن محللين سياسيين آخرين يرون أن حزب الله وإيران ليس لديهما، في الوقت الراهن، مصلحة في خوض حرب شاملة مع إسرائيل، وسيكتفيان برد محسوب، قد يتخذ شكل هجوم متزامن، ينطلق من لبنان، ومن العراق، ومن اليمن، ومن إيران نفسها، وخصوصاً أن هذه الأخيرة، خلال ردها العسكري على إسرائيل في منتصف نيسان/أبريل الفائت، خلقت "معادلة ردع جديدة". ووفقاً لخبراء في القضايا الاستراتيجية، يمكن أن يكون هذا التصعيد العسكري أفقياً، بحيث يمتد الصراع إلى مناطق لم تكن متأثرة به سابقاً أو متأثرة به قليلاً، أو يكون عمودياً، بحيث يتجاوز عتبة جديدة في قوة الأسلحة المستخدمة وكتلتها، أو كليهما في الوقت نفسه.

ما هي أهداف إسرائيل من وراء الهجومين؟

تذرعت حكومة الحرب الإسرائيلية بالصاروخ الذي سقط على ملعب كرة قدم في بلدة مجدل شمس، وتسبب في استشهاد 12 شاباً وفتى، كي تبرر هجومها على الضاحية الجنوبية في بيروت، علماً بأن هذه البلدة تقع في الجولان السوري المحتل، الذي يعيش فيه نحو 24000 من أبناء الطائفة الدرزية وبناتها، احتقظ معظمهم بالجنسية السورية، ورفض قيام إسرائيل بضمه إليها في أواخر سنة 1981، وهو الضم الذي لم تعترف به سوى الولايات المتحدة الأميركية في عهد إدارة دونالد ترامب، بينما يعتبره المجتمع الدولي أرضاً سورية محتلة، وعلماً كذلك بأن سكان هذه البلدة استقبلوا بنيامين نتنياهو بصيحات الاستهجان عندما قام بزيارة البلدة بعد هذه الحادثة.

في خطاب ألقاه مساء يوم الأربعاء في 31 تموز/يوليو الفائت، من وزارة الحرب، حذر بنيامين نتنياهو من أن "الأيام الصعبة تنتظرنا"، وقال: "منذ الضربة في بيروت، جاءت التهديدات من كل مكان"، وأضاف: "نحن مستعدون لمواجهة كل السيناريوهات، وسنبقى متحدين ومصممين في مواجهة كل التهديدات"، وكرر أن الحرب في غزة ستستغرق وقتاً وتتطلب التحمل من جانب المواطنين الإسرائيليين، وأنه "تعرض لضغوط في الداخل والخارج لإنهاء الحرب"، مؤكداً: "لم أستسلم لهذه الأصوات في حينه، ولا أفعل ذلك اليوم". وتابع أنه لو استمع إليها، "لما تمكنت إسرائيل من القضاء على قادة حماس ومقاتليها، أو تدمير البنية التحتية، أو الاستيلاء على المنطقة الحدودية بين غزة ومصر"، أو "خلق الظروف التي تقرّبنا من اتفاق يسمح ليس فقط باستعادة رهائننا، بل أيضاً بتحقيق جميع أهدافنا الحربية". ولم يقل بنيامين نتنياهو كلمة واحدة عن جريمة اغتيال إسماعيل هنية، لكنه أشار إلى أن "ضربات قاضية وجهت خلال الأيام الماضية" إلى من سمّاهم "وكلاء إيران" في المنطقة.

ويتبيّن من فحوى هذا الخطاب أن بنيامين نتنياهو يرمي إلى الاستمرار في الحرب التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وهو أراد، من وراء الهجومين على بيروت وطهران، أن يمنح الإسرائيليين "صورة نصر"، لم تحققه عشرة أشهر من الحرب على القطاع الفلسطيني، وأن يضمن استعادة قوة الردع التي فقدها هذا الجيش، عقب السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وما تلاه، وإعادة الثقة إلى الإسرائيليين "بقوته وقدرته على تجاوز الخطوط الحمراء التي حددت القواعد الضمنية للصراع في مواجهة إيران وحلفائها". وبحسب المحلل ميشال توما، مدير تحرير موقع (icibeyrouth) ، كان هدف الهجومين الإسرائيليين وضع شعار "وحدة الساحات" - الذي طرحه "محور المقاومة" وتمثّل في انخراط "حزب الله في جنوب لبنان، والحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق"، في الحرب بغية "دعم حماس وتخفيف الضغط العسكري الإسرائيلي في غزة"- وضع هذا الشعار "موضع التنفيذ" من جانب إسرائيل والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وكتب: "ففي أقل من أربع وعشرين ساعة، وفي ثلاث مناطق حساسة، وقعت الغارة الإسرائيلية في الضاحية الجنوبية، مما أدى إلى اغتيال الرجل الذي يعتبر رئيس أركان حزب الله، فؤاد شكر؛ كما وقع هجوم جوي أميركي في محافظة بابل إلى الجنوب من بغداد على معقل للحشد الشعبي؛ وضربة إسرائيلية في قلب طهران، أدت إلى اغتيال زعيم "حماس" إسماعيل هنية، ناهيك عن الغارة الجوية الإسرائيلية التي دمرت، في 20 تموز/يوليو ، ميناء الحديدة الرئيسي في اليمن، والذي كان يسيطر عليه الحوثيون"، مقدّراً أن الهجمات الثلاث التي شنتها إسرائيل والولايات المتحدة "تأخذ في حد ذاتها بعداً رمزياً للغاية لا يمكن إنكاره ولا يمكن إغفال نطاقه، وهي رسالة ثلاثية ذات طبيعة جيوسياسية موجهة إلى من يظهرون هذه الرغبة الحربية في توحيد الجبهات".

ما هي حقيقة الدور الأميركي؟

وقع الهجومان الإسرائيليان على بيروت وطهران مباشرة بعد عودة بنيامين نتنياهو إلى تل أبيب من رحلته إلى الولايات المتحدة، والتي من المحتمل أن يكون قد بحث خلالها مع الرئيس جو بايدن استراتيجيته في ما يتعلق بلبنان وحصل منه على ضمانات. وفي واشنطن، وخلال خطابه أمام الكونغرس، تمكن بنيامين نتنياهو من قياس الدعم الذي لا تزال إسرائيل تتمتع به من جزء كبير من المشرعين الأميركيين، ولا سيما في الحزب الجمهوري. ولا يُستبعد كذلك أن تكون المرشحة الديمقراطية المحتملة للبيت الأبيض، كامالا هاريس، أكدت له الدعم الأميركي وحق إسرائيل "في الدفاع عن نفسها"، على الرغم من أنها "أزعجته" لدى حديثها عن مصير المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، وعن معاناتهم. لكن هل كانت إدارة جو بايدن على علم بالعملية التي أدت إلى استشهاد إسماعيل هنية في طهران؟.لقد رفض وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يوم الأربعاء، في 31 تموز/يوليو الفائت، التعليق بصورة مباشرة على اغتيال زعيم حركة "حماس" لكنه شدد على "ضرورة" تحقيق وقف إطلاق النار في غزة. وقال في مقابلة خلال منتدى للنقاش في سنغافورة: "بالطبع لقد رأيت الأخبار، وكل ما يمكنني قوله لكم في الوقت الحالي هو إنه لا يوجد ما يدعو إلى التشكيك في أهمية التوصل إلى وقف لإطلاق النار"، وأضاف في مقابلة تلفزيونية نشرت مقتطفات منها: "بادئ ذي بدء، لم نكن على علم ولسنا متورطين" في عملية الاغتيال. ولكن، على الرغم من تملصها من المسؤولية، يشير حادث قيام طائرات أميركية، بعد ساعات قليلة من الضربة الإسرائيلية في الضاحية الجنوبية لبيروت، بقصف قاعدة لميليشيات شيعية جنوب بغداد، إلى تورطها بصورة أو بأخرى، وهو القصف الذي قد يؤذن بانتهاء الهدنة التي أعلنتها الميليشيات العراقية، في كانون الثاني/يناير الماضي، بعد هجوم على موقع أميركي في الصحراء الأردنية، على مسافة ليست بعيدة عن الحدود مع العراق وسورية.

عواقب الهجومين على إسرائيل

لم يقم الجيش الإسرائيلي، الذي وُضع في حالة تأهب قصوى، وخصوصاً فيما يتعلق بأسلحة الدفاع الجوي، بإعطاء السكان المدنيين أي تعليمات أمنية جديدة حتى الآن. لكن سكان الشمال بالقرب من الحدود اللبنانية، وكذلك في حيفا، أكبر ميناء في البلاد، يعيشون في ظل توتر شديد للغاية. وقد تم تعزيز تدابير الحماية للمنشآت مثل المصافي ومحطات الطاقة ومنشآت الأسلحة، وكذلك استعدادات المستشفيات لاستيعاب المصابين المحتملين. ومن ناحية أخرى، أشارت بعض المصادر إلى تعرض الشيكل الإسرائيلي إلى أكبر انخفاض له على مدى ثلاثة أيام منذ عامين، ويخشى الخبراء من تزايد خطر نشوب حرب أوسع في الشرق الأوسط وتداعياتها السلبية على الاقتصاد الإسرائيلي.ومن ناحية أخرى، من المحتمل أن يتسبب الهجومان الإسرائيليان في عرقلة المفاوضات الجارية بشأن إطلاق سراح المحتجزين لدى حركة "حماس" ووقف إطلاق النار في قطاع غزة. وقد عبر إسرائيليون يوم الأربعاء عن مخاوفهم بشأن مصير هؤلاء المحتجزين، وقالت أنات نوي، من سكان حيفا: "لقد كان خطأ [الهجوم في طهران] لأنه يعرض للخطر إمكانية التوصل إلى اتفاق بشأن الرهائن؛ لقد استيقظنا اليوم وفي قلوبنا شعور بالخوف، لأن الوضع قد يتفاقم أكثر"، وأضافت المرأة الخمسينية: "لا يوجد هدوء؛ نحن خائفون". ومن أجل عدم المبالغة في الأمر، أصدر بنيامين نتنياهو تعليماته لأعضاء حكومته بالتزام الصمت والامتناع عن أي إعلان بشأن اغتيال إسماعيل هنية، وهي التعليمات التي انتهكت على الفور من قبل العديد من الوزراء.

هل سيناريو الحرب الإقليمية الشاملة هو سيناريو محتمل؟

تصاعدت التحذيرات الدولية من احتمال حدوث هذا السيناريو، إذ عقد مجلس الأمن يوم الأربعاء في 31 تموز/يوليو الفائت اجتماعاً عاجلاً بناء على طلب إيران، ودعم روسيا والجزائر والصين. وفي رسالته إلى المجلس، أدان المندوب الإيراني أمير سعيد إيرواني "بأشد العبارات عدوان النظام الصهيوني المتمثل باغتيال إسماعيل هنية"، ودعا المجلس إلى "إدانة الأعمال العدوانية والهجمات الإرهابية التي يقوم بها النظام الإسرائيلي ضد سيادة إيران وسلامتها الإقليمية، وكذلك أعمال العدوان الأخيرة ضد سيادة لبنان وسورية وسلامتهما الإقليمية"، واتخاذ "خطوات فورية لضمان المساءلة عن هذه الانتهاكات للقانون الدولي، بما في ذلك إمكانية فرض عقوبات وإجراءات أخرى لمنع المزيد من العدوان". وقد عبر معظم أعضاء المجلس عن خشيتهم من "حدوث تصعيد في الصراع في المنطقة". وكان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قد قدّر "أن الهجمات التي شهدناها في جنوب بيروت وطهران تمثل تصعيداً خطيراً في وقت يجب أن تؤدي فيه كل الجهود، بدلاً من ذلك، إلى وقف إطلاق النار في غزة، وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين". وبينما دعا الاتحاد الأوروبي جميع الأطراف إلى "ضبط النفس"، اعتبر الكرملين أن اغتيال زعيم حركة "حماس" قد يؤدي إلى "زعزعة استقرار المنطقة بشكل كبير"، وقال المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ديمتري بيسكوف، للصحافة: "ندين بشدة هذا الهجوم [على طهران]... ونعتقد أن مثل هذه الأعمال موجهة ضد محاولات استعادة السلام في المنطقة ويمكن أن تزعزع استقرار الوضع المتوتر بالفعل بصورة كبيرة".

ورداً على هذه الدعوات الدولية إلى "ضبط النفس"، أكد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في الخطاب الذي ألقاه في تشييع القائد فؤاد شكر بعد ظهر يوم الخميس في الأول من آب/أغسطس 2024، أن من "يريد وقف التصعيد عليه أن يضغط على إسرائيل كي توقف عدوانها على غزة"، مؤكداً أن هجومي إسرائيل في الضاحية الجنوبية وفي طهران نقلا "جبهات الإسناد" إلى "معركة كبرى"، وأن إسرائيل "لا تعرف ما هي الخطوط الحمراء التي تجاوزتها"، وأن عليها أن تنتظر "رداً حقيقياً وملموساً"، بات قراره "في يد الميدان، الذي يعرف ظروفه وفرصه". وكما لاحظت صحيفة "ليبراسيون" الباريسية، فإن بنيامين نتنياهو فضّل، في البيان الصحفي الذي أصدره بالتزامن مع خطاب الأمين العام لحزب الله، "ورقة التهديد على ورقة التهدئة"، مؤكداً أن إسرائيل "على مستوى عالٍ جداً من الاستعدادات لأي سيناريو، دفاعياً وهجومياً"، وأنها "ستدفّع ثمناً باهظاً جداً لأي عمل عدواني ضدها".

وهكذا، يبدو أن بنيامين نتنياهو، على رأس حكومة الحرب الإسرائيلية، قد فتح أبواب المنطقة أمام احتمال اندلاع حريق شامل فيها لن تحمد عقباه، وأن هذا الحريق لن يطفئه سوى قيام إسرائيل بوقف الحرب المدمرة التي تشنها على قطاع غزة وسكانه، وإعلانها الالتزام بوقف إطلاق النار والتوصل إلى صفقة لتبادل المحتجزين الإسرائيليين في القطاع بالأسرى الفلسطينيين في سجونها.

عرض مقالات: