في زمن تسارعت فيه وتيرة الإعلام وتداخلت فيه القيم مع المصالح، لم يعد من الغريب أن نجد أنفسنا نعيش حالة من التشويه المقصود لمفهوم الثقافة والمثقف، بل تحول الإعلام ــ في كثير من برامجه ومنصاته ــ إلى أداة فعّالة في صناعة صورة مزيفة للمثقفين، وتقديم من "هبّ ودبّ" على أنهم رموز فكرية أو منابر وعي، فقط لأنهم يتقنون فن الظهور أمام الكاميرا أو لأنهم يملكون قاعدة جماهيرية على وسائل التواصل.
الإعلام الذي كان يُفترض به أن يكون حارسا للوعي الجمعي، ووسيطا نزيها بين المفكرين والجمهور، سقط في فخ التسطيح والتسخيف، وبدأ يتعامل مع الثقافة كسلعة قابلة للترويج والبيع، لا كقيمة عليا تُنير العقول. فاستُبدل المثقف الحقيقي، صاحب الرؤية والموقف والمعرفة المتراكمة، بآخرين يعتاشون على الإثارة، ويكتفون بعبارات منمقة دون أي عمق فكري.
هذا الانحدار لم يأتِ من فراغ، بل هو جزء من سياسة إعلامية ممنهجة، تهدف إلى تحويل المشهد الثقافي إلى "عرض ترفيهي"، يتماشى مع منطق السوق والرغبة في جذب أكبر عدد من المشاهدين، ولو على حساب الحقيقة والوعي. فأصبحنا نرى برامج "ثقافية" تستضيف ممثلاً أو فاشينيستا ليتحدث عن قضايا الفكر والهوية والانتماء، بينما يُقصى الأكاديمي والباحث لصالح من يجيد التحدث بلغة دارجة خالية من أي مضمون حقيقي.
المشكلة الأخطر أن هذا الواقع يخلق أجيالا تخلط بين الثقافة والشهرة، بين التفكير والثرثرة، فتتشكل صورة مشوهة للمثقف، لا بوصفه صاحب مشروع معرفي أو موقف نقدي، بل كشخصية "كاريزماتية" تصلح للبث، ويمكن أن تنتشر كالميمات على شبكات التواصل.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط نقد هذا المشهد، بل إعادة الاعتبار للثقافة كقيمة مستقلة عن السوق، وتحرير الإعلام من سطوة الاستعراض، ورفع الصوت في وجه هذا التزييف المتعمد للوعي. فالمثقف لا يُقاس بعدد المتابعين، ولا بحجم الإعجابات، بل بقدرته على مساءلة الواقع، وفتح آفاق جديدة للفهم والنقد.
لقد آن الأوان أن نسأل: من الذي يُمنَح الميكروفون؟ ومن الذي يُقصى؟ وهل نريد إعلامًا يصنع جمهورا واعيا، أم جمهورا مروَّضا يكتفي بالصورة دون المضمون؟
الإجابة تكشف الكثير مما يُدار خلف الكواليس، في معركة عنوانها الحقيقي: "من يحتكر تمثيل الوعي؟".