اخر الاخبار

يُعد الإرشاد الزراعي أحد الأعمدة الأساسية لتحقيق التنمية الزراعية المستدامة، خصوصاً في الدول النامية مثل العراق، حيث يشكل الجسر الرابط بين مخرجات البحث العلمي وواقع الحقول الزراعية. فهو لا يقتصر على نقل المعرفة، بل يمثل عملية تنموية متكاملة تسهم في تحسين مستوى معيشة المزارعين، وزيادة الإنتاجية، وتعزيز الأمن الغذائي الوطني.

لقد برزت أهمية الإرشاد الزراعي من خلال أدواره المتعددة. فهو أولاً يزود المزارعين بأحدث المعارف والتقنيات المتعلقة بالبذور المحسّنة، وأساليب الري الحديثة، والمكافحة المتكاملة للآفات، والتسميد الأمثل. هذه المعارف تسهم في رفع كفاءة الزراعة وتحسين جودة المحاصيل. كما يعمل على ترشيد استخدام الموارد الطبيعية، عبر توجيه المزارعين نحو الاستغلال الأمثل للأرض والمياه والعمالة، بما يقلل من الهدر ويزيد من الربحية.

ولا يقف دوره عند حدود الإنتاجية، بل يمتد إلى تشجيع تبني الممارسات الزراعية المستدامة، مثل الزراعة العضوية والدورة الزراعية وحفظ التربة، وهي ممارسات تحافظ على البيئة والموارد الطبيعية للأجيال المقبلة. كذلك يساعد الإرشاد المزارعين في تعزيز قدراتهم التسويقية من خلال فهم احتياجات السوق، وتحسين جودة منتجاتهم، وربطهم بالأسواق المناسبة، وهو ما يفتح أمامهم فرصاً أكبر لتحقيق دخل أفضل.

من جانب آخر، يتولى الإرشاد الزراعي مهمة أساسية في تنمية مهارات المزارعين وقدراتهم على اتخاذ القرار، وحل المشكلات، وإدارة مزارعهم بفاعلية. كما أنه يضطلع بدور حيوي في التخفيف من آثار التغيرات المناخية عبر رفع الوعي وتقديم حلول عملية، مثل اعتماد أصناف مقاومة للجفاف أو الحرارة. وبهذا يساهم في النهاية في تحقيق الأمن الغذائي من خلال ضمان وفرة الإنتاج وتحسين سلاسل القيمة الزراعية.

ورغم هذه الأهمية البالغة، يواجه الإرشاد الزراعي في العراق جملة من العقبات التي تحد من فاعليته، خصوصاً في ظل الظروف الراهنة. أبرز هذه التحديات يتمثل في ضعف البنية التحتية وقلة الموارد، حيث تعاني المراكز الإرشادية من نقص الكوادر المؤهلة والتمويل اللازم، إضافة إلى تردي المباني والمختبرات. كما أن الوضع الأمني غير المستقر في بعض المناطق، والتدخلات السياسية والإدارية المتكررة، يشكلان عائقاً أمام تنفيذ برامج إرشادية مستقرة وفعالة.

أما على صعيد البحث العلمي، فما زال التمويل المحدود والضعف المؤسسي يعيقان إنتاج المعرفة الزراعية الجديدة. ويضاف إلى ذلك الفجوة الواضحة بين المؤسسات البحثية والقطاع الإرشادي، مما يقلل من سرعة نقل نتائج الدراسات إلى المزارعين. وتبرز أيضاً التحديات البيئية المتمثلة في شح المياه، وتدهور الأراضي الزراعية بفعل التملح والتصحر، فضلاً عن التغيرات المناخية التي تفرض أنماطاً زراعية جديدة تحتاج إلى خطط إرشادية متخصصة.

ولا يمكن إغفال العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تعرقل عمل الإرشاد، مثل ضعف وعي بعض المزارعين بأهميته، وانتشار الحيازات الصغيرة التي تحد من جدوى بعض برامجه، إضافة إلى الصعوبات الاقتصادية التي تعيق تبني التقنيات الحديثة. كما أن الهجرة المستمرة من الريف إلى المدن أدت إلى تقلص قاعدة المزارعين، في وقت ما زال فيه استخدام التكنولوجيا الحديثة في مجال الإرشاد محدوداً، سواء من قبل المزارعين أو المرشدين أنفسهم.

إن مواجهة هذه التحديات تتطلب رؤية استراتيجية واضحة، تقوم على زيادة الاستثمار في قطاع الإرشاد الزراعي، وتطوير البنية التحتية، وتأهيل الكوادر البشرية، إلى جانب تعزيز التعاون بين المؤسسات الحكومية والبحثية، والمنظمات الدولية، والمجتمع المحلي. فبناء نظام إرشادي قوي وفعّال لم يعد ترفاً، بل ضرورة ملحة لضمان تنمية زراعية مستدامة، قادرة على تلبية حاجات العراق الغذائية والاقتصادية في الحاضر والمستقبل.

ـــــــــــــــــــــــــــ

* مهندس زراعي استشاري