تواجه الزراعة في العراق تحدياً مصيرياً يتمثل في ندرة المياه، ولا سيما في الأراضي الزراعية التي تعتمد على الري السيحي. هذا التحدي لا يقتصر على تراجع إنتاج بعض المحاصيل، بل يمتد ليهدد الأمن الغذائي برمته، ما يفرض على الدولة والمزارعين على حد سواء إعادة النظر في أنماط الزراعة وطرق الري المعتمدة.
لطالما اعتمد المزارعون في العراق على محاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه مثل الأرز والقمح والذرة الصفراء. غير أن الظروف المائية الحالية لم تعد تسمح بالاستمرار بهذا النمط، مما يستوجب التوجه نحو بدائل أكثر ترشيداً. البقوليات مثل العدس والحمص، إلى جانب الخضروات المختلفة، تقدم حلولاً عملية، إذ لا تستهلك فقط كميات أقل من المياه، بل تُسهم أيضاً في تحسين خصوبة التربة. التحول من الري السيحي إلى أنظمة أكثر تطوراً أصبح ضرورة ملحّة. فالري بالتنقيط والرش والري تحت السطحي أثبتت جدواها في العالم كله، حيث توفر المياه مباشرة للنبات وتقلل الهدر بشكل كبير. كما أن استبدال السواقي المفتوحة بالأنابيب المغلقة، وتقنين الكميات عبر عدادات دقيقة، يشكل خطوة إضافية نحو إدارة رشيدة للموارد.
لا يقتصر الترشيد على المياه وحدها، بل يشمل التربة أيضاً. تحسين بنيتها بالمواد العضوية، واعتماد تقنيات الزراعة الحافظة، يساعدان على الاحتفاظ بالرطوبة وتقليل التبخر. أما توقيت الري في أوقات الصباح أو المساء فيُعد إجراءً بسيطاً لكنه فعّال في الحد من الفواقد.
يمكن للعراق أن يستفيد بشكل أوسع من مياه الأمطار عبر إنشاء أحواض وحواجز لتجميعها، بل وحتى من خلال شبكات لتجميع مياه المدن. كما أن معالجة مياه الصرف الصحي وتحويل مخلفاتها العضوية إلى أسمدة يفتح الباب أمام مصدر بديل ومستدام للري، كما هو الحال في العديد من البلدان. لا يمكن لأي خطة إصلاحية أن تنجح من دون شراكة حقيقية مع المزارعين. فالتوعية بجدوى هذه التغييرات، وتقديم الدعم الفني والمالي عبر القروض الميسرة، وإنشاء حقول إرشادية، والتدريب العملي على تقنيات الري الحديثة، كلها عناصر جوهرية لضمان التنفيذ على أرض الواقع.
إن مواجهة أزمة المياه في العراق ليست خياراً، بل ضرورة وجودية. ومع اتباع إجراءات متكاملة تشمل تغيير أنماط الزراعة، اعتماد تقنيات الري الحديثة، استثمار مياه الأمطار، وإعادة تدوير الموارد، يمكن تحقيق زراعة أكثر استدامة، تسهم في الحفاظ على الأمن الغذائي للأجيال القادمة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
*مهندس زراعي استشاري