اخر الاخبار

بداية، تتعين الإشارة إلى أنه ليس هناك مفهوم ثابت وجامد وناجز وقابل للاستخدام في كل زمان ومكان، حتى تلك المفاهيم التي تبدو لنا كذلك. فالمفهوم مرتبط بتاريخ نشأته، أي بالمشكلات التي كانت مطروحة في وقت نشوئه، كما هو مرتبط بالإشكاليات النظرية التي رافقت هذه المشكلات اي بنوعية المناظرة الفكرية التي دارت حوله المشاكل المطروحة والطريقة التي حاول بها المثقفون مواجهتها، فهو بالضرورة ابن بيئة تاريخية اجتماعية محددة وهو ابن فكر محدد أيضا.

الاشتقاق اللغوي "للديمقراطية"

- ديمقراطية مشتقة من الكلمتين اليونانيتين demos (الشعب) kratos (السلطة) اي حكم الشعب.

مفهوم الديمقراطية:

• مجموعة قواعد لتنظيم العلاقة بين الأفراد والطبقات وهي علاقات معقدة لتنظيم حياة مجتمع، وهي لا تنفصل عن القانون الاساسي المحرك للعمليات الاجتماعية، وهو الصراع الطبقي.

• او مجموعة من المؤسسات والاليات لتنظيم الحكم، بما يضمن ان يكون هذا الحكم بواسطة الشعب ومن أجله.

ظهور الديمقراطية وأشكالها:

الشكل الأول: ظهر هذا الشكل من الديمقراطية في القرن الخامس من قبل الميلاد في أثينا، وعرف بالديمقراطية المباشرة في حالة المدن وليس الدول، وهي الديمقراطية السادة، ولم يكن للمرأة الحق في الانتخاب وكذلك العبيد.

الشكل الثاني: الديمقراطية التمثيلية (النيابية) ظهرت في القرن الثامن عشر والتي اعتمدت على الأسس الاتية.

• برلمان منتخب والبرلماني يمثل الأمة وليس ناخبيه.

• حكم الأكثرية اي المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وقبول التعددية.

• التبادل السلمي للسلطة عبر صندوق الانتخابات حيث يفترض التعددية السياسية (حرية تشكيل الأحزاب السياسية).

• ضمان الحقوق المدنية للأفراد.. يعني حماية الأفراد من أي انتهاك لحقوقهم الاساسية، سواء من قبل الحكومة او الأفراد الآخرين، وضمان تمتعهم بفرص متساوية وحماية قانونية في المجتمع.

• المساومة أمام القانون.

• الإقرار بمبادئ ولوائح حقوق الانسان التي أقرتها الأمم المتحدة.

الشكل الثالث: الديمقراطية غير المباشرة، وتمثل الاستفتاء، مثلا اختيار الدستور.

الديمقراطية والرأسمالية.

اعتمدت البرجوازية في مرحلة نشوئها على آليتين لتحقيق القضاء على الاقطاعية وتعزيز هيمنتها.

- الأولى العلمانية (سكيولاريزم secularism المشتقة من سيكولوم saeculum اللاتينية وتعني العصر او الجيل او القرن، ولكن في العصور الوسطى كانت تعني العالم او الدنيا او هذا الزمان في مقابل الكنيسة): - وهي مجموعة قواعد تنظيم عمل المجتمع وترتكز على:

1. فصل بين الدين عن الدولة، حيث اعتمدت طبقة الإقطاع على المؤسسة الدينية المتمثلة (بالكنيسة) كحليف لفرض هيمنتها الايديولوجيا وفي إدارة الدولة كذلك، وقد استخدم مصطلح "سيكولار secular" لأول مرة مع توقيع صلح وستفاليا (عام 1648م) - الذي أنهي أتون الحروب الدينية المندلعة في اوربا- وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة (اي الدولة العلمانية) مشيرا إلى "علمنة أراضي الكنيسة" اي استيلاء الطبقة البرجوازية الصاعدة على ممتلكات الكنيسة.

2. حرية الضمير وتعني حرية الفرد في اعتناق اي دين او معتقد يختاره او عدم اعتناق اي دين، وحرية ممارسة هذا الدين او المعتقد او التعبير عنه، مع مراعاة حقوق وحريات الآخرين.

3. المساواة في الحقوق بين الأديان والمعتقدات، مع ضرورة تطبيق هذه المساواة واقعيا ومجتمعيا.

- الثانية الليبرالية.. جاء مصطلح الليبرالية في البداية من اللغة اللاتينية "liberalis" التي تعني "حر" ظهر المصطلح لأول مرة في انجلترا في أواخر القرن الثامن عشر لوصف مذهب اقتصادي يقوم على حرية حركة الرأسمال وأصحاب الرأسمال دون قيود تحد من حركتهما.

- واعتمدت (الليبرالية) فيما بعد لتصبح ايديولوجيا البرجوازية الصاعدة من رماد الاقطاع.

- ويمكن الإشارة إلى أن الرأسمالية اعتمدت في نشوئها على السلب والنهب والاستغلال من خلال: 

السيطرة على مقدرات الشعوب الأخرى.

كانت المواجهة العالمية بين الغزاة وضحايا الغزو الموضوع الاول لهذا النظام العالمي القديم (ان النظام العالمي الجديد لم يأت بعد وان السمات الرئيسية للنظام العالمي الاستعماري القديم لم تزل هي هي حتى الان). اتخذت تلك المواجهة أشكالا عدة، وسميت أسماء مختلفة: الامبريالية، والاستعمار الجديد، وصراع الشمال – الجنوب، والمركز ضد المحيط، والسبعة الكبار (مجتمعات رأسمالية الدولة السبعة الكبرى وتوابعها ضد البقية). او ببساطة أكثر، الغزو الاوربي للعالم.

يقول ادم سميث عام 1776 ان " اكتشاف أمريكا (1492)، واكتشاف طريق الهند الشرقية عبر رأس الرجاء الصالح (اكتشف المستكشف البرتغالي بارتولوميو دياز رأس الرجاء الصالح عام 1488 وأطلق عليه اسم " راس العواصف" بسبب العواصف الشديدة التي واجهها، ومع ذلك، أطلق ملك البرتغال، جون الثاني، عليه لاحقا اسم " رأس الرجاء الصالح" تفاؤلا باكتشاف طريق بحري جديد إلى الهند، اكتشاف هذا الطريق من أهم أسباب انهيار الدولة المملوكية لأنه حول حركة التجارة العالمية إليه بدلاً من مرورها بدول القلب مما سمي العالم القديم.) هما أعظم وأهم حدثين في التاريخ البشري"، " لا تستطيع حكمة البشر أن تتنبأ أية فوائد أو أية مصائب للبشرية ستنتج عن هذين الحدثين العظيمين من الآن فصاعدا".

ولكن كان من الممكن، لعين تتحرى الصدق، رؤية ما كان قد تم بالفعل. كتب سميث " إن اكتشاف أميركا ... قدم مساعدة جوهرية لوضع أوربا ”، " فاتحا سوقا جديدة لا تستنفد " أدت إلى توسع ضخم " للقوى المنتجة" و " للدخل الحقيقي والثروة" . في النظرية، " كان على نظام التبادل الجديد ان يبرهن، على نحو طبيعي، على نفعه للقارة الجديدة، كما كان قد فعل نحو القارة القديمة بالتأكيد". لكن ذلك لم يكن له ان يحدث بالفعل. " حول جور الأوربيين الوحشي ذلك الحدث، الذي كان يجب ان يفيد الجميع، إلى حدث مدمر وهدام لكثير من تلك القارات المنكودة الحظ" هذا ما كتبه سميث كاشفا نفسه كواحد من أوائل مرتكبي جريمة " الاستقامة السياسية ”، إذا أردنا أن نستعير شيئا من بلاغة القائمين على ثقافة أيامنا. يتابع سميث: " بالنسبة للسكان الاصليين، إن في الهند الشرقية او في الهند الغربية، غرقت كل المنافع التي كان ممكنا جنيها من هذه الأحداث وضاعت في المصائب التي خلقتها ”. فبفضل " أفضلية القوة " التي حازها الأوربيون " كان بمقدورهم ارتكاب كل انواع المظالم في تلك البلاد النائية دونما خوف من عقاب ".

لا يذكر سميث السكان الأصليين من شمال أمريكا، " لم يوجد في أمريكا إلّا أمتان تتجاوزان منزلة الوحشية (البيرو والمكسيك). وقد دمرت هاتان بمجرد اكتشافهما تقريبا. اما الباقي فكانوا مجرد متوحشين". انها فكرة مناسبة للغزاة البريطانيين، ومن هنا كان لابد من الإصرار عليها، حتى في الدراسات العلمية، إلى أن أدت الصحوة الثقافية في الستينيات إلى فتح عيون كثيرة.

أطلق غزو العالم الجديد اثنتين من الكوارث السكانية التي لا مثيل لهما في التاريخ، إهلاك السكان الأصليين في نصف الكرة الغربي، وخراب أفريقيا حيث توسعت تجارة الرقيق سريعا لخدمة حاجات الغزو، وأخضعت القارة كلها.

عانى معظم سكان آسيا أيضا من " المحنة الرهيبة" ومع تغير الأشكال، تحافظ الموضوعات الأساسية للغزو على حيويتها ومرونتها، وستظل كذلك إلى أن يتم تناول حقيقة وأسباب " الجور الوحشي بأمانة".

كتب أحد الغزاة الهولنديين في الهند الشرقية عام 1614 أن " التجارة لا يمكن ان تستمر دون حرب، ولا الحرب دون تجارة" ... ويقول باركر إن هيمنة الأوربيين على العالم قد "اعتمدت بشكل حاسم على الاستخدام المستمر للقوة"! وبفضل تفوقهم العسكري، لا بفضل أية ميزة اجتماعية او أخلاقية او طبيعية، تمكن البيض من بناء وقيادة أول هيمنة عالمية في التاريخ، وان لفترة وجيزة.

مولت الهند في القرن التاسع عشر خمسي العجز التجاري البريطاني، مقدمة سوقا لمصنوعات بريطانيا، وجنودا لحروبها الاستعمارية، والأفيون الذي كان السلعة الرئيسية لتجارتها مع الصين.

"إن الحقيقة المهمة البارزة هي أن تلك الإجراءات في الهند التي عاشت أطول من غيرها تحت الحكم البريطاني هي الأفقر اليوم، كما كتب جواهر لال نهرو "بالحقيقة يمكن رسم خريطة بين الصلة الوثقى بين طول مدة الحكم البريطاني، والنمو الشديد للفقر".

ومن هنا بذلت جهود مخلصة لضمان ان لا يسلك اي قطاع في الجنوب دربا مستقلا، ومن هنا يأتي الرعب، الذي يصل حد الهستيريا، من اي انحراف تتم ملاحظته.

يجب ان يتجمع الكل ضمن الاقتصاد العالمي الذي تهيمن عليه مجتمعات رأسمالية الدولة الصناعية. إن للجنوب دورا خدميا، تقديم المواد الاولية، والعمل الرخيص والأسواق وفرص الاستثمار، ومؤخرا استقبال التلوث.

الاستيلاء على أراضي الفلاحين وتحويلهم إلى عمال

ربما كان نزع الملكية الفلاحية الواسع الذي جرى بأقصى معانيه في انكلترا وحدها "أساسا لتطورها الاقتصادي الأكثر سرعة، حيث جرد الفلاحون من حقوق الملكية التي أفلحوا في الاحتفاظ بها في فرنسا، ودفعوا إلى سوق العمل". "كان غياب الحرية وحقوق الملكية هو بالضبط ما سهل الانطلاق الحقيقي للتطور الاقتصادي" في انكلترا، كما يقول روبرت برينر في استطلاعه الذكي لأصول الرأسمالية الاوربية.

استغلال الطبقة العاملة إضافة للنساء والأطفال في العمل

يبدأ تاريخ البروليتاريا في انكلترا مع النصف الثاني من القرن الثامن عشر مع اختراع الآلة البخارية وآلة تشغيل القطن، لقد سببت تلك الاختراعات كما هو معروف جيداً، ثورة صناعية، ثورة غيرت كل المجتمع المدني، ثورة تبدأ الآن فقط، معرفة أهميتها التاريخية، إن انجلترا هي التربة الكلاسيكية لمثل هذا التحول، الذي كان أقوى التحولات، وأكثرها مضيا في سكون، ولذا فأن انكلترا هي أيضا الأرض الكلاسيكية، لنتاجها الأساسي، البروليتاريا، انه في انجلترا وحدها، يمكن دراسة البروليتاريا في كل علاقاتها، ومن جميع جوانبها.

دعنا نرى ما يقدمه المجتمع للعامل مقابل عمله. في صورة مسكن، ملبس ومأكل، اي نوع من الوجود يتفضل به هؤلاء الذين أعطوا الكثير لدعم المجتمع، دعنا أولا ان نتأمل مسألة السكن.

إن هذه الاحياء القذرة منظمة بشكل متماثل إلى حد ما، في كل المدن الكبرى في انجلترا، أسوأ المنازل في أسوأ أحياء المدن، غالبا أكواخ من طابق أو طابقين في صفوف طويلة، ربما بها أقبية تستخدم كمساكن، وهي على وجه التقريب، مبنية دائما بطريقة منتظمة، إن هذه المنازل المكونة من ثلاث او أربع حجرات ومطبخ، تشكل في طول انكلترا وعرضها، باستثناء بعض أجزاء لندن، المساكن العامة للطبقة العاملة، ان الشوارع عموما غير ممهدة، وعرة وقذرة، مليئة بفضلات الخضار والحيوان، لا توجد بها مرازيب ولا بالوعات، ولكنها مزودة بدلا من ذلك بالعفن والبرك الآسنة، بالإضافة إلى ذلك فأن الطريقة المضطربة السيئة لبناء الحي كله تعرقل التهوية، اذ حيث يعيش العديد من البشر هنا، مزدحمين إضافة إلى مأوى الكلاب والخيل، والنتيجة الطبيعية لذلك رائحة كريهة، فضيعة عفنة وأسراب حشرات.

وهذه الشوارع، كما تقول جريدة انجليزية في مقال عن الحالة الصحية للعمل في المدن غالبا ما تكون ضيقة إلى حد ان المرء يمكن ان يخطو من نافذة منزله إلى نافذة جاره المقابل، وبينما المنازل مكومة بشكل مرتفع، طابق فوق طابق، حتى ان الضوء نادرا ما ينفذ إلى الحارة او الزقاق الرافد بينها. إن منازل الفقراء قذرة بشكل عام، ومن الواضح انها لا تنظف ابدأ، إنها تتكون في أغلب الأحوال من حجرة واحدة، تخضع لأسوأ تهوية ومع ذلك فهي على الدوام باردة. حيث النوافذ محطمة او سيئة التركيب، وهي أحيانا رطبة، وتقع تحت مستوى المياه الجوفية على نحو ما، وهي دائما ما تكون رديئة الأثاث، وغير مريحة على الاطلاق، وغالبا ما تستخدم الأسرة كلها كومة قش كمرقد لها، وفوق هذه الكومة ينام الرجال والنساء، الصغار والكبار في اختلاط منفر، ويمكن الحصول على المياه من المضخات العامة فقط، ونتيجة لصعوبة الحصول على المياه تتراكم القذارات.

دعنا نستمع إلى " ج ك سيمونس" مفوض الحكومة لاستقصاء حالة النساجين اليدويين، وهو يصف تلك الأجزاء من المدينة.

"لقد رأيت الشقاء في بعض أسوأ أطواره، هنا وفوق القارة لكنني، وحتى زيارتي لأزقة" جلاسجو"، لم أكن لأصدق، أنه يمكن ان يوجد إثم وتعاسة ومرض بهذه الوفرة في اي بلد متحضر. ففي تلك المنازل المفروشة المنحطة، ينام عشرة، اثني عشرة، وأحيانا عشرون شخصا من كلا الجنسين ومن كل الأعمار، وبدرجات مختلفة من العري، مكومين معا فوق أرض الحجرة، دون اي تمييز. وعادة ما تكون تلك الملاجئ رطبة للغاية وقذرة وآيلة للسقوط حتى ان المرء لا يحب وضع حصانه في واحدة منها".

إن البطاطس التي يشتريها العمال هزيلة دائما، والخضروات ذابلة والجبن قديم ومن نوع رديء، ولحم الخنزير المملح زنخ، واللحمة عجفاء ناشفة من أبقار عجوز، غالبا مريضة او ربما ماتت موتا طبيعيا، وحتى حينذاك فأنها ليست طازجة، ولكنها في الغالب فاسدة والباعة دائما من الصغار الجائلين، الذين يشترون السلع الدنيا، وهم الذين في وسعهم ان يبيعوها بسعر رخيص، بسبب رداءتها، إن أفقر العمال مجبرون على استخدام حيلة أخرى، للحصول على الأشياء التي يحتاجونها ببنساتهم القليلة، إن شيئا لا يباع يوم الأحد، وعلى كل المتاجر ان تغلق أبوابها في الحادية عشرة مساء السبت، وبهذا فإن الأشياء التي لا يمكن حفظها حتى يوم الاثنين، تباع بأي ثمن فيها بين الساعة العاشرة ومنتصف الليل. غير ان تسعة أعشار ما يباع الساعة العاشرة لا يصلح للاستخدام في صباح الاحد، ومع ذلك فأنها بالتحديد الزاد الذي يشكل غذاء الطبقة الأفقر.

ان معدل الموت يظل عاليا إلى هذا الحد، بسبب الوفيات الكثيفة بين صغار أطفال الطبقة العاملة أساسا. ان الهيكل الرقيق للطفل لأعجز ان يقاوم المؤثرات الضارة، لهذا القدر المتدني من الحياة. ان الإهمال الذي كثيرا ما يتعرضون له، عندما يعمل كلا الوالدين او يموت أحدهما، ليثأر لنفسه على الفور، ولذا فليس من العجب أن يهلك أكثر من 75 في المائة من أبناء الطبقة العاملة في "مانشستر"، طبقا لأخر تقرير اقتبسنا عنه، قبل سن الخامسة، بينما 20في المائة فقط من اطفال الطبقات العليا.

ان الحكومة بكل ميزانيتها الهائلة والتي تبلغ 55,000,000 جنيه استرليني، لا يوجد بها غير فقرة واحدة تافهة مبلغ 40,000 جنيها استرلينياً للتعليم العام اي بمقدار (0،07) في المائة من إجمالي الميزانية. ان ما يعتمد للتعليم، لأقل بكثير من ذلك الذي يعتمد لحمل الناس على التعصب للطوائف الدينية، والذي يضر بقدر ما يفيد على أقل تقدير. وكما يحدث، فأن "كنيسة الدولة" تدير مدارسها الأهلية الرعوية، وكذا تدير مختلف الطوائف الدينية مدارسها الخاصة بكل طائفة، بهدف واحد، هو المحافظة على أطفال اخوة المذهب في إطار الطائفة، والعمل على الفوز بروح طفل بائس هنا او هناك من طائفة دينية اخرى. والنتيجة، إن الدين وبالتحديد أقل جوانب الدين دون جدوى، الجانب الذي يناقش نواحي الخصومة، هو الذي يكون الموضوع الرئيسي للتعليم، وتحمل ذاكرة الأطفال أكثر من طاقتها بعقائد جزئية غير حاسمة، واختلافات لاهوتية، وبذا توقظ الكراهية الطائفية والتعصب بصورة مبكرة للغاية، وتهمل كل أعمال التثقيف الأخلاقية والذهنية العقلية بطريقة مخجلة.

دعونا نأخذ بعض البيانات من حديث تقدم به "اللورد اشلي"، "الساعات العشر" (لإعلان مارس) في 15 منه عام 1844 في مجلس العموم. إنه يقدم هنا بعض المعلومات عن علاقة جنس العمال بنسبهم، وهي معلومات لم يدحضها أصحاب المصانع بعد، هؤلاء الذين لم تغط بياناتهم، كما هي مقتبسة.

آنفا، غير جزء من الصناعة الآلية في انجلترا. فمن بين 419,560 من العاملين بالمصانع في الامبراطورية البريطانية عام 1839، يوجد 192،887، اي قرابة النصف، ممن هم دون الثامنة عشرة من العمر، 242،296 من الإناث، منهن 112،292 كن أقل من الثامنة عشرة من العمر. وبذا يتبقى هناك 80،695 من العمال الذكور تحت سن الثامنة عشرة، و96،569 من العمال الذكور الراشدين، اي اقل من الربع الرقم الاجمالي. وتشكل الإناث 56 في المائة من إجمالي العاملين في مصانع القطن، 69،5 من العاملين بمصانع الصوف، 70،5في المائة من العاملين بمصانع الحرير، 70،5 من العاملين بمصانع الكتان.

ان الرجال يستهلكون في فترة مبكرة للغاية، نتيجة الأحوال التي يعيشون ويعملون في ظلها. ان معظمهم يصبح غير صالح للعمل عند سن الاربعين، وقلة منهم تصمد حتى سن الخامسة والاربعين، ولا يصمد أحد في الغالب حتى سن الخمسين. ان ذلك لا يرجع فقط، إلى الضعف العام للبنيان، لكنه يرجع أيضا، وبصورة غالبة للغاية، إلى عجز الإبصار، والذي ينتج عن الغزل على آلة الغزل، حيث يضطر العامل إلى تثبيت نظرته على صف طويل في الخيوط الرفيعة المتوازية، وبذا يجهد الإبصار إجهادا شديدا.

فمن بين 6400 عاملا يشتغلون في مصانع عديدة في "هاربور" و "لا نارك" كان هناك عشرة منهم فقط فوق سن الخامسة والاربعين، ومن بين 22094 عاملا في مصانع متنوعة في "ستوك بورت" و "مانشستر" كان 143منهم فقط فوق سن الخامسة والاربعين، وكان هناك 16 شخصا من هؤلاء ال 143 قد أبقي عليهم لمالهم من حظوة خاصة، وكان أحدهم يقوم بعمل صبي. ان قائمة من 131 غزالا لم تكن تشتمل على غير سبعة فقط فوق سن الخامسة والاربعين، ومع ذلك فان كل 131 قد رفضهم أصحاب المصانع الذين تقدموا للعمل لديهم، باعتبار أنهم "مسنون للغاية".

إن العاملات بالمصنع يعانين من نفاس أصعب من غيرهن، كما ان استعدادهن للإجهاض أكبر، الأمر الذي شهد به العديد من أطباء الولادة والقابلات.

إنهن يعانين، بالإضافة إلى ذلك، من الضعف العام السائد بين كل العمال، كذلك فإنهن يستمررن في العمل بالمصنع بعد الحمل حتى ساعة الوضع، وإلّا فقدن أجورهن، كما أنهن يخشين ان يستبدلن سريعا بأخريات إن تغيبن، وكثيرا ما يحدث ان تظل النسوة في العمل حتى المساء، ثم يلدن في صباح اليوم التالي. بل ان حالات الوضع في المصنع بين الآلات ليست بالحالات النادرة تماما.

إن ضرورة ارتفاع احصائية الوفاة بين صغار الأطفال لاشتغال الأمهات لأمر غني عن البيان. إنه ماثل دون أدنى شك في تلك الحقائق البشعة. ان النساء غالبا ما يعدن إلى المصنع بعد الولادة بثلاثة او أربع أيام بعد ترك أطفالهن، وعليهن ان يسرعن ساعة الغداء إلى منازلهن لإطعام الطفل وتناول شيء ما.

ان استخدام المنومات لوضع الأطفال في حالة من السكون، أمر يروج له هذا النظام الشائن، وهو قد بلغ حدا كبيرا في أحياء المصانع. ويرى "د. جونس" الموقف المسؤول في مانشستر أن تلك العادة هي المصدر الرئيسي للميتات العديدة الناجمة عن الارتعاش.

ان النساء غير المتزوجات اللائي شببن في المصانع، لسن بأفضل حال من هؤلاء المتزوجات. إنه لأمر واضح ان الفتاة التي بدأت عملها في مصنع في التاسعة من عمرها، ليست في وضع يجعلها ملمة بالعمل المنزلي، ومن ثم فان الإناث العاملات يثبتن انهن غير مدربات على الاطلاق وغير لائقات لأن يكونن مدبرات منازل. انهن لا يستطعن الحياكة او الخياطة، الطبخ او الغسيل، غير ملمات بأبسط واجبات مدبرة المنزل. وعندما يرزقن بأطفال صغار، يلزم العناية بهم، فأنهن لا يملكن شبه معرفة في كيفية القيام بذلك، ويعطي "تقرير لجنة تقصي المصانع" العديد من الأمثلة على ذلك، وفيما يلي يعبر دكتور "هاوكينز" مندوب "لانكشاي" عن وجهة نظره.

" إن الفتيات يتزوجن مبكرا ودون ترو، كما انه ليس لديهن الوسائل او الوقت او الفرصة لتعلم واجبات الحياة المنزلية العادية، وحتى ان كن على علم بها كلها، فأنهن لن يجدن الوقت خلال حياتهن الزوجية لممارسة تلك الواجبات. ان الأم تغيب عن طفلها أكثر من اثنتي عشرة ساعة يوميا، وهي تتركه لرعاية فتاة او امرأة عجوز كي تقوم على رعايته. ويضاف إلى ذلك أن مساكن عمال المصانع غالبا ما تكون أقبية لا منازل، لا تحتوي على اوعية للطبخ او الغسيل، او مواد الخياطة والرتق، لا شيء مما يجعل الحياة مقبولة او متحضرة، او يجعل المأوى المنزلي جذابا، لهذا كله ولأسباب اخرى، خاصة من اجل فرص أفضل في الحياة لصغار الأطفال، فأنني لا أملك إلّا ان اتمنى وآمل أن يأتي وقت ما يوصد فيه باب المصانع أمام المرأة المتزوجة".

دعونا نسمع كيف كانوا يتصرفون قبل ان يكون مفتش المصنع في أعقابهم، إن شهادتهم التي اعترفوا بها لتدينهم في تقرير لجنة تقصي المصانع لعام 1823.

ان تقرير اللجنة المفوضة المركزية يروي أن اصحاب المصانع قد بدأوا بتشغيل الصبية الذين هم نادرا ما يكونون في سن الخامسة وغالبا في السادسة، وأكثر الاحيان في السابعة، ودائما في الثامنة والتاسعة، وان يوم العمال غالباً ما كان يدوم أربع عشرة إلى ست عشرة ساعة، دون وجبات او فواصل، وان اصحاب المصانع قد أباحوا للمشرفين جلد الصبية واساءة معاملتهم، وغالبا ما كانوا هم أنفسهم يشاركون وبشكل فعال في هذا الفعل.

 

الديمقراطية والليبرالية:

• الآن الاقتران بين (الديمقراطية) و(الليبرالية) لم يقع، تاريخياً ضربة واحدة، بل بالعكس هو الصحيح تماماً، حيث ان (الليبرالية) قاومت (الديمقراطية) ردحا طويلا من الزمن، قبل ان تعود لاستيعابها بالتدريج، فحق التصويت، على سبيل المثال، ظل قاصراُ على الطبقات الرأسمالية العليا وحدها حتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر. اما العمال فلم يعترف لهم بهذا الحق، إلّا في نهاية القرن التاسع عشر، واما النساء فقد كان عليهن الانتظار، للحصول عليه، حتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين.

• الليبرالية/ إذن ولدت اقتصاديا اولا، ثم تمقرطت بعد ذلك متخذة طابعها السياسي، وكان السبب الكامن وراء ذلك هو اضطرار البرجوازية لتوسيع دائرة الحقوق والحريات التي طالما دافعت عنها اثناء مرحلة نهوضها الثوري، لتشمل كل المواطنين، باعتبارها ان هذه الديمقراطية في جوهرها، هي تعظيم (المساواة) في فرص الحياة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، و(تحرير) القوى الكامنة لدى الإنسان لتحقيق ذاته.

 

بعض الاستنتاجات:

• ان الديمقراطية ليست نظاماً غربياً فقط، انما هي نظام إنساني ساهمت البشرية، عبر تاريخها الطويل، في تطوره باتجاه التوازن بين السلطة كضرورة والحرية كمطلب أساسي للناس. هذه الاطروحة لا تلغي حقيقة ان الديمقراطية البرجوازية هي بلا شك، أكثر اتساعاً وعمقاً من اي ممارسة ديمقراطية سابقة لها او رافقتها في حقبة تاريخية محددة، ونشير ان هذا التطور الديمقراطي لا يعفيها من كونها أكثر التشكيلات الاقتصادية - الاجتماعية استغلالا للشعوب من التشكيلات السابقة عليها.

• لم يتطور النموذج الليبرالي كنتيجة لمقولات محض فكرية او فلسفية بقدر ما تطور كمحصلة لصراع اجتماعي، داخل البلدان التي تطورت فيها، وقدرة ذلك الصراع إلى تطور النموذج الديمقراطي الحالي، من خلال مشاركة طبقات اجتماعية متعددة فيه وعبر عدد من المراحل التاريخية، كانت معمدة بالتضحيات وبالدم يتعين التأكيد على حقيقة انتصار مبدأ الديمقراطية البرلمانية لم يتحقق قط في بلد من البلدان الغربية إثر انتصار ثورته البرجوازية بل ان حق الاقتراع العام والشامل لم يطبق في الغالبية الساحقة من الدول الرأسمالية المتطورة إلّا إثر هزائم في الحروب الخارجية ادت إلى توسيع القاعدة الاجتماعية للأنظمة المهزومة (المانيا، ايطاليا، اليابان). او إثر حروب خارجية تطلبت نوعاً من الإجماع الوطني لمجابهة المخاطر (انكلترا، بلجيكا، فرنسا، النرويج) في صراعها مع السويد ولم تشذ عن هذه القاعدة إلّا سويسرا.

• إن غياب الديمقراطية في بلداننا هي سمة دائمة، لا تمت بصلة إلى " الوراثة التقليدية" عن العهود السابقة، كما يروج لها في بعض الخطابات بمفاهيم من قبل الاستبداد الشرقي... الخ، ان هذا الوضع هو ناتج ضروري لمقتضيات التوسيع الرأسمالي، كما هو قائم بالفعل. ان الاستقطاب الناشئ على الصعيد العالمي، المرتبط بمقتضيات التوسيع الرأسمالي يخلق بدوره استقطاباً اجتماعياً داخلياً يتجلى في ظواهر عديدة أهمها التفاوت في توزيع الدخول والتهميش المتعاظم لفئات اجتماعية واسعة.

ان الوطنية والتنمية والعصرية، وما إلى ذلك من المصطلحات السياسية، ينبغي- حتى يمكن فهمها في كل أبعادها – ان تدرج ضمن اشكالية التشكل التاريخي لهذه "الطبقات السائدة" وما يميز هذا التطور عن المسار التاريخي لتشكيل البرجوازية الاوربية الغربية، منذ القرن الثامن عشر.

 

موجات الانتقال الديمقراطي:

1. في أعتاب الثورتين الأمريكية 1776، والثورة الفرنسية 1789، اذ شنت مرحلة من الديمقراطية في أوربا ولأمريكيتين في القرن التاسع عشر، خصوصاً بعد ثورة 1848.

2. موجة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت انتشار الديمقراطية في أوريا الغربية ووصل الديمقراطية في اليابان والهند وبعض الدول المستقلة حديثا من الاستعمار.

3. موجة أوائل السبعينيات من القرن العشرين، مع عمليات الانتقال الديمقراطي في جنوب أوربا (إسبانيا، البرتغال، اليونان) – وأيضا مع الانتقال الديمقراطي في البرازيل وأمريكا الجنوبية والوسطى. اذ أصبح عدد الديمقراطيات (60) دولة.

4. موجة ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.

• اصبحت الديمقراطية حديثة العهد أكثر تماشيا مع التحولات الرأسمالية، بل منحت شرعية أكبر الاجراءات النيوليبرالية التي تنطوي على الكثير من الإفقار والتهميش الامر الذي أدى إلى تراجع كبير في معدلات المشاركة السياسية سواء في الانتخابات او في الانضمام للأحزاب حتى قاربت 20في المائة في بعض الدول.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

* المفهوم فكرة مجردة او تمثيل ذهني يمثل جوهر شيء ما او فكر.

    المصادر:

1- كتاب "المجتمع المدني والديمقراطية" الدكتور: صالح ياسر.

2- كتاب " 501 الغزو مستمر" نعوم تشومسكي.

3- كتاب " حال الطبقة العاملة في انجلترا" فردريك انجلس.

4- كراس "العلمانية" للدورات الفكرية المركزية للحزب الشيوعي العراقي.

5- في ضوء المؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي العراقي (مجموعة مقالات) الدكتور: صالح ياسر.

6- كراس " الانتقال الديمقراطي واشكالياته" للدورات الفكرية المركزية للحزب الشيوعي العراقي .