اخر الاخبار

حين تعود الذكريات لتطرق أبواب الروح، تعيدني إلى أصدقائي ورفاقي الشهداء الذين غادروا الحياة مبكراً، تاركين وراءهم بصمة لا تمحى في القلب والوجدان. وفي مقدمتهم يقف الشهيد الشيوعي العراقي قصي حميد حمادي الخزاعي، الفتى الذي جمعت شخصيته بين شجاعة فنية متفردة ونضال فكري ملهم، ليترك لنا إرثاً عميقاً من الإلهام والحزن.

في عام 2003، وخلال زيارتي لمدينة الديوانية بعد سقوط نظام صدام المقبور، استوقفني بهو مقر الحزب حيث عُلّقت صور الشهداء. وقفت هناك متأملاً تلك الصور، مسترجعاً ذكريات الماضي. تعرّفت على بعض الرفاق الذين كان لهم أثر بارز في مسيرتنا النضالية، مثل الشهيد كريم عبد الله المياحي، الذي كان يعمل جابياً في مصلحة الركاب (الوركاء)، والشهيدة فوزية شنان، المعلمة وصديقة أختي المرحومة نجوى، والتي كنت أذكر اجتماعاتهم في شقة بمدينة الحرية في بغداد. وأخيراً، توقفت عند صورة الشهيد قصي حميد، التي أعادت إليّ ذكريات لا تُنسى من ذلك الزمن.

كان قصي مسرحياً فذاً، يمتلك موهبة نادرة جعلته يتعمق في أدواره ويؤديها بإبداع استثنائي. لا تزال صورته على خشبة مسرح دار المعلمين في الديوانية في بداية السبعينيات حاضرة في ذاكرتي. لقد أدهشني حينها بحركاته النابضة بالحياة التي حوّلت النصوص إلى مشاهد حقيقية تنبض بالواقع. كان ذلك أول لقاء لي به كمتفرج، حيث جسّد دور المتظاهر الذي يقود مجموعة من الممثلين، عاكسة ملامحه الإصرار والقوة. كانت قدرته على تجسيد الشخصية كقائد وخطيب مؤثر تشهد على براعته الفنية، إذ تميز بمرونة جسدية مذهلة، وصوت معبر، وحركات دقيقة، يثير فينا نحن المتفرجين الحماس ويدفعهم للتصفيق بحرارة وهم واقفون. آخر لقاء جمعني بقصي كان في أواخر السبعينيات، حين كان يعيش في غرفة شبه مظلمة في قلب الحيدرخانة في بغداد. كان التعب والخوف بادية على ملامحه، إذ كان يدرك أن القتلة يتعقبونه، وأن مكانه لم يعد آمناً. ومع ذلك، كان إيمانه بقضيته يمنحه القوة للمضي قدماً، متنقلاً بحثاً عن الأمان والاستمرار في مسيرته.

قصي يذكرني بشخصية بافل كورتشاغين، البطل المحوري في رواية (كيف سقينا الفولاذ) للكاتب نيقولاي أوستروفسكي. تماماً مثل بافل، كان قصي رمزاً للإنسان المكافح الذي كرس حياته للنضال من أجل قضايا العدالة الاجتماعية وحقوق العمال. كان كلاهما مثالاً للثبات في مواجهة التحديات والتضحيات من أجل تحقيق أحلامهما وأهدافهما.

في يوم الشهيد الشيوعي، الذي يصادف 14 شباط من كل عام، تتجدد ذكريات قصي ورفاقه الشهداء بكل ما تحمله من مشاعر مختلطة بين الحزن والفخر. إن استحضار ذكراهم ليس مجرد تكريم لذكراهم، بل هو تأكيد على التزامنا بالمسيرة التي ضحوا من أجلها. إنهم ليسوا مجرد أسماء، بل رموز تنبض بالحياة في قلوبنا وتضيء لنا الطريق في أحلك اللحظات.

قصي، أيها الرفيق الشهيد، أنت لست مجرد ذكرى تمر في حياتنا. أنت شعلة أضاءت طريق النضال والإبداع، وستظل تلهمنا لنواصل الطريق الذي اخترت السير فيه. سنظل نذكرك بفخر ونستلهم منك القوة والعزيمة لتحقيق الحلم الذي ناضلت من أجله: وطن حر وشعب سعيد.