اخر الاخبار

من يعيش في المنفى، يدرك عمق الخوف الذي تجلبه له رنة الهاتف المبكر. ويدرك رهبة النصف ساعة الأولى، في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، فلطالما توجسنا من اخبار الفقدان الموجعة، ورحيل الأحبة المفاجئ، رغم كل ما يقال عن حتمية الموت وكوننا كلنا عابرون لهذا الجسر المقيت، فالأخبار الحزينة تواصل عصر قلوبنا بأصابع من حجر وبشكل موجع.

ها هي الاخبار الحزينة، من العراق تبلغنا برحيل الشخصية الوطنية والمربي المناضل الشيوعي عزيز دحام (1934ـــ 2022).

منذ طفولتي، غمرتني هيبة هذه الشخصية، بطيبتها وحكمتها وبعد نظرها، وما ان كبرنا قليلا، وتعلمنا شيئا عن تاريخ العراق واسلافنا من بلاد سومر، لم يعد له من معادل عندي سوى لقب: السومري. في حضوره، وبهدوئه الجم تغمر روحي السكينة دائما، وفي عمق أحاديثه اتلمس عبق التاريخ، وحكمة متوارثة يهبها ببساطة لمستمعيه، ومن كلماته النيرة، بروح الفلاح ابن الأرض، يشع ايمانا كبيرا بمستقبل قادم نذر روحه له. كان رب أسرة متفانيا ومحاربا لأجل اهداف نبيلة، عرف بمواقفه الصلبة، وعمله في سلك التعليم خلق له مريدين أثار غيض رجالات مختلف الأنظمة.

تعرض وعائلته الكبيرة على يد مختلف الانظمة لصنوف القمع والتضييق، فلم يرحمه النظام البعثي الصدامي المجرم فالقاه سنينا في زنازينه، التي ضمت خيرة أبناء العراق، فكان أبو سعد عمودا لخيمة الامل ظللت المناضلين من حوله.

أذكر حين ضاقت بنا السبل، في أواخر سبعينات القرن الماضي، وكانت ضباع البعث تطارد الشيوعيين من شارع، عّن لي زيارته في مدينة الشطرة، فنحن نرتبط مع العائلة بوشائج قربى، كنت أنوي ان ابتعد عن الأنظار لأيام، تحت ستار الاشتياق والحنين. قابلتني العائلة بالترحاب الكبير، وطوال الوقت كان أبو سعد يتفرسني بعيني الخبير. لم اتحدث شيئا عن اضطراري لترك الدراسة الجامعية، ولا عن محاولة اعتقالي ومطاردة جلاوزة البعث لي في شوارع البصرة، ولا عن (كبسات الامن) لبيت اهلي في السماوة. كنت أحاول ان أكون طبيعيا. وما ان اختلينا لوحدنا حتى بادرني وابتسامة خفيفة تعلو وجهه الطيب:

ــ اترك الاشتياق جانبا، واحكي لي: هل اخبرت أحد بقدومك إلى الشطرة؟ وكم لك وانت مختف؟ كيف وضعك في الجامعة؟

وطوال الليلة، حكيت له كل ما أدركه بحدسه وخبرته، واستمعت منه لملاحظات وارشادات عن العمل السري والتخفي، وبدل ان أبقى يومين أجبرني لأبقى أكثر من ذلك:

ـ لا يعرفك أحد هنا، فلا تغادر المنزل فنحن مراقبون أيضا.

قبل ان اترك البيت دس في جيبي مبلغا من المال رافضا اعتراضي:

ـ من تجربتي اعرف ان فائدتها كبيرة هذه الأيام.

عانقته مودعا بحرارة، حاملا معي شيئا من قبس أيمانه وتجربته، بأن لابد من مجيء يوم سقوط القتلة، ولابد للمستقبل ان يكون أبهى، رغم كل المعاناة والصعاب والتضحيات.

رحل معلمي وقدوتي السومري المناضل عزيز دحام، فما أشد الحزن بهذا، وليس بدون معنى ان أبنه، وصديقي الفنان سعد عزيز دحام، حين هاتفته بادر وقدم لي التعازي مواسيا ...

لك المجد والخلود معلمنا وملهمنا أبو سعد ... إن المستقبل الذي عملنا لأجله، قد لا نراه، لكنه قادم يحمل شيئا من بهاء اسمك...  وداعا!

عرض مقالات: