الطفل
بقعة ضوء على الرجل ، في
الشاشة الخلفية مواطنون يهربون
مذعورين من الرصاص والتفجيرات
الرجل: “ يشير إلى الشاشة “ في هذا الجو ،
وجدتني وإياها ، زوجتي ، نركض وسط
الناس المذعورين ، تحت الانفجارات
ورصاص القناصة ، نحو مواقع القوات
المسلحة ، تعثرت بعباءتها مرة اخرى ،
وكادت تتهاوى على الأرض ، فأسرعتُ
إليها ، عبر أمواج الهاربين ، وأسندتها
بيديّ ، لكنها أبعدت يديّ عنها بغضب ،
وهي تصبح ، ابتعد عني .. ابتعد ، لم
أبتعد عنها ، وبقيت أهرول خلفها ، خشية
أن تقع على الأرض ، وتسحقها أقدام
الهاربين ، وقلت لها ، ارفعي عباءتك
قليلاً ، وإلا تعثرتِ بها مرة أخرى ، لكنها
بدل أن ترفع عباءتها ، نزعتها بيدها
المضطربة الغاضبة ، وألقت بها على
الأرض ، بل ونزعت الشال الذي تغطي
به رأسها ، وطوحت به بعيداً ، فصحت
بها ، أيتها المجنونة ، ماذا تفعلين ؟
وتوقفت وسط أمواج الناس المتدافعة ،
رجالاً ونساء وأطفالاً ، واستدارت بعكس
التيار ، ثمّ راحت تسير وعيناها تشتعلان
بنيران قلقة مجنونة ، وهي تتمتم .. طفلي
.. طفلي .. طفلي ، وجُنّ جنوني ، هذه
المخبولة سيقتلها القناصة ، وخاصة إذا
رأوها تركض بلا وشاح وبلا عباءة ،
وهرعتُ إليها ، وطوقتها بذراعيّ ،
فراحت تضربني بكلتا يديها ، وهي
تصيح بجنون ، دعني .. لن أترك طفلي
.. يجب أن أنقذه .. دعني .. دعني ،
ورأتنا امرأة عجوز ، كانت تدبّ على
عكازها ، وقد اتشحت بالسواد من رأسها
حتى أخمص قدميها ، فتوقفت عل مقربة
منّا ، رغم سيول الناس التي تتدافع حولنا
، وخاطبتني قائلة ، يا ظالم ، دعها تذهب
إلى طفلها ، وتنقذه من الموت ، فأجبتها ،
وزوجتي تتخبط بين ذراعيّ محاولة
الافلات مني ، أيتها الجدة ، طفلنا تحت
أنقاض بيتنا ، الذي انهار بفعل قنبلة ، قبل
أكثر من شهر ، وضربتني موجة من
الهاربين ، أسقطتني أرضاً ، وأفلتت
زوجتي من بين ذراعيّ ، ونهضت على
عجل ، وسيول الناس تدافعني ، وبحثت
عن زوجتي ، لكن دون جدوى ، لابدّ أن
هذه المجنونة ، قفلت عائدة إلى بيتنا الذي
تهدم ، وهذا يعني الموت المحقق ، لن
أتركها ، لابد أن ألحق بها ، مهما كان
الثمن .
الرجل يستدير ، ويركض
ضدّ التيار حتى يختفي
لمن تقرع الأجراس ؟
ظلام ، يُضاء رجل ، شاشة
في الخلفية ، أصوات أجراس
الرجل: “ يخاطب الجمهور “ اصغوا ،
الأجراس تُفرع ، ترى لمن تُقرع
الأجراس الآن في موصل العراق
؟ نعم ، لمن تُقرع هذه الأجراس ؟
اصغوا ملياً .. اصغوا “ يصغي
إلى الأجراس “ ، يقولون إن
الأجراس تُقرع للأبطال ، وأنا
أقول إن الأجراس تقرع أيضاً “
يشير إلى الشاشة ، المسيح في
المغارة “ لطفل ولد في المغارة ،
ترجه في المهد عبوة ناسفة
، وتلاحقه إلى النهر زخات
رصاص ، ويسلمه للصلب يهوذا
العصر ، وتقرع لايزيدية في عمر
الزهور ، اختارت أن تموت
انتحاراً ، رافضة أن تكون سبية
في القرن الواحد والعشرين ،
وتُقرع لطفلة “ على الشاشة تنام
طفلة تحضن دمية “ تنام ودميتها
تغفو على صدرها ، وتفزّ
مرعوبة ، حين ترى في المنام ،
رصاصة قناص تقتل دميتها
الصغيرة ، وتُقرع لصبية “ على
الشاشة صلبة مؤرقة في الليل “ لا
تنام ، رغم انتصاف الليل ،
فحلمها البكر بمثابة ندى ، يرفرف
فوق نيران الحرب ، وتُقرع
لزوجة شابة “ على الشاشة فتاة
شابة تغرق الدموع عينيها “ تنام
على دموع خوفها ، فزوجها
الجندي الشاب ، يقاتل في الجبهة
الشرقية من الموصل ، وتُقرع
لامرأة في شتاء عمرها ، أخذت
حرب الخليج زوجها ، وسرقت
حرب الكويت ابنها ، وها هو
حفيدها يقاتل في شوارع الموصل
، وتُقرع لأمّ صبية “ على الشاشة
امرأة شابة حبلى “ تحمل طفلها
الأول ، جنيناً في رحمها ،
وتركض هاربة تحت نيران
الحرب ، بحثاً عن نخلة ، تضع
طفلها في ظلها الآمن ، فلا تجد ،
في حروبنا الدائمة ، غير أعجاز
نخل خاوية ، وتقرع لرجل عجوز
“ على الشاشة رجل عجوز ،
يجلس عند بقايا بيته المنهار “
يجلس منهاراً أمام بيته الذي هدمته
قنبلة طائشة ، ويرفض أن يغادر
بقايا بيته ، فتحت تلك الأنقاض
زوجته وابنه وزوجة ابنه وأحفاده
الثلاثة .
تُطفأ الشاشة ، تختفي أصوات
الأجراس ، يجمد الرجل في مكانه