اخر الاخبار

يركن النص القصصي القصير جدا، حاله حال النصوص السردية الأخرى كالرواية والقصة القصيرة، الى تقنية مهمة في بنيتها القصصية القصيرة جدا، فهي تقوم بتوظيف الذاكرة البشرية، واستدعاء الماضي بكل مراحله، واستجلاب الذكريات مهما كان لونها، أو ما يسمى بالاسترجاع حسب تقنيات السرد عند البنيوي الفرنسي "جيرار جينيت"، لأهداف جمالية يفرضها النص على بطله، وحسب السياق النصي لذلك النص القصصي، ولهذا أسبابه، منها:

- الحنين للماضي.

- الحزن على لحظة قد مضت.

- إدانة الماضي لو كان سيئا.

ويتداخل الشعر مع السرد من خلال اللغة العميقة التي تحفر في الوجدان مرة، وأخرى من خلال الرؤى والصور في ذلك الوجدان الشفيف، فيقرأ النص السردي بسياق النص الشعري، والنص الشعري بسياق النص السردي، إلا ان النصين مازالا يحتفظان باصولهما الفنية، هذا الأصل السردي، وذاك الأصل الشعري. وهذا ما تقدمه القصة القصيرة جداً والتي يكتبها القاص الليبي حسين بن قرين درمشاكي.

الحنين للماضي: النص "خلود":

((كانت خلود سرًا لا يُدرَك، وشوشةً تهمس بها نبضات الفؤاد الخافقة. لم تكن جسدًا يلمس، بل روحًا تُحلّق عند حافة الغسق، حيث يرقص النور الأخير على شفاه العدم. في كل أمسية، تتلبسها الأجواء كوشاحٍ من ضوءٍ خفي، يترشح شذاها من مسام أنفاسها، كأنفاس الغيب، يُعمد الظلام بتراتيل هيامٍ شفيف، ويعقد الدجى عليها صلواته.

وحدتها، قيثارة الغياب، كانت تعزف لحنها الشفيف في أوردة الشوق، تُناديني من بعيد. حنينٌ كصدىً أبديّ، يُمزق حجاب الروح في أقصى أعماقي. مع كل خفقة أفولٍ في الكون، كانت تتخلق، ومع كل نأمة حنينٍ تتجدد فيّ، توقظ جمرة اشتياقٍ تلسع الروح، لا تُطفئها دهور ولا تُفنيها الليالي. بيننا، كان الصمت الشاهد الوحيد، لغةٌ تتجاوز الحروف والكلمات، تروي حقيقة وجودها الذي يملأ كل فراغٍ في هذا الكون، ويُحيي ما كان مواتًا في الروح. ميثاقٌ أبديّ، وعهدٌ لا يُكسر، حتى لو كان الشاهد عليه مجرد سكون.

لكن الشفق، في لحظة سكونٍ موحشٍ لم أعهده، لم يبتلعها وحسب؛ بل مزّق كينونتها كوشاحٍ مهترئ، ونثر ذرات روحها في مهب العدم. لم تعد الأمسيات تتجلى، ولا الأنفاس تترشح، ولا حتى الصدى يرتد. اختفت خلود، وكأنها لم تكن سوى حُلمٍ باهتٍ لم يُكتب له البقاء. مات الشوق في صدري قبل موتي، وصار وجودها لعنة فراغٍ لا تُحيي، بل تُفني كل أثر، حتى ظل الذكرى.)).

النقد:

لا تشغلنا كلمة "الحنين" كثيرا، والتي وردت في النص أعلاه، وانما علينا أن نقرأ النص جيدا من أوّله الى آخره لنجده ينبض بهذا الشوق الشفاف الى عوالم هذه الفتاة "خلود" هذه التي "توقظ جمرة اشتياقٍ تلسع الروح"، وهذا الاشتياق هو الجاذب للحنين الى شيء غير مرئي عند الوعي، والانتباه، على الواقع، وكأن ما راه شخص النص هو حلم كان يراوده في منامه، أو لا وعيه الباطني، لا شيء، وانما قبض ريح. النص ينبض بالاشتياق والحنين.

الحزن على لحظة قد مضت: النص "صدى الثرى":

((مزق جوف الليل أنين طفله المفقود. هرع الوالد، وقلبه يتصدع رعبًا، ليجد المهد كهفًا باردًا. وما هي إلا هنيهة، حتى ارتجف الفضاء بصوت غائر: صوت دفن يبتلع الفراغ)).

النقد:

هذا النص لا يحتاج الى تفسير، أو شرح، ولا حتى تأويل، ان به حاجة الى قراءة متمعنة ليترك أثره فينا، بحزنه الشفيف على ماض تولى، مع الاعتذار من السيدة أم كلثوم في أغنيتها "أغداً ألقاك"، على طفل هو شخصية النص المتوفي.

الحزن هذا هو فعل انساني، كالحنين، متجذر في نفسية شخصية النص، وليس ترفا شكليا يصبغ حياتنا لحظة ثم ينتهي الى اللا شيء.

إدانة الماضي لو كان سيئا: النص "بقاء":

((في قرية منسية، تتداعى مساكنها الطينية كعظام بالية، تفوح منها رائحة الإهمال. أقامت أم الخير ونجلها بلال، طيفين شاحبين ينطقان بالعوز. عيناها الغائرتان قلقًا تستشرفان الأفق، بينما تومض في عيني بلال بارقة أمل واهنة، يتشبث بردائها البالي كغصن يائس.

في ليالي الجدب، يعوي الهجير بين الدروب المقفرة كجوع ذئب. تضم أم الخير جسدها النحيل حول وليدها، تحميه من صرير الليل وهمس الخوف المتسلل من جدران المسكن المتصدع، وتستعيد في صمت مرارة أرض قاحلة وذبول أعمار، ومستقبلًا يائسًا.

ذات ليلة، استعر العويل حتى اهتز الكوخ. شعرت ببرد يخترق عظامها، ورأت في الظلام أطيافًا متوهجة تمتد نحو طفلها النائم. أحست بقوة تنتزع دفئه، وصدى كلمات أبيها عن الصمود يتردد في أعماقها.

صرخة أمومة مدوية مزقت سكون الليل، إعلان عن بقاء أعمق من الكلمات، كروح تنازع الموت من أجل فلذة كبدها. ضمته بضراوة كأنها تتوحد به، جزءًا من وجودها عصيًا على الفناء. نظرت إلى عينيه المغلقتين، رأت فيهما شعلة الرجاء الوحيدة في هذا العالم القاسي، جذوة ضئيلة يجب أن تحميها بكل قوتها.

فجأة، ومع ذروة نحيبها، توقف العويل وتلاشت الأطياف كزوال الليل مع الفجر. ساد صمت أثقل من الفقد يلف المكان المتصدع والمظلم. لكن قوة خفية سرت في عروقها، إرادة حياة متأصلة. استقام ظهرها وشعرت بدفء يسري في جسدها.

   في الصباح، عندما أشرقت الشمس شاحبة كدمعة معلقة، حملت بلالًا على ظهرها بعزم جديد، وودعت بصمت وهدة ابتلعت أحلامًا كثيرة، ونظرت إلى الأمام بعينين تقدحان إصرارًا خفيًا.)).

النقد:

بين ما كان يحدث لهذه الأم، وطفلها في الماضي من آلام وقهر وحزن وبين اصرارها في نهاية المطاف على الوصول الى بر الأمان، وهو فعل انساني كباقي الأفعال الانسانية التي مضى الحديث عنها، تحمل ابنها "بلال" على ظهرها، وتسير في طريق الخلاص، فتتوقف الآلاف من حالات العذاب التي مرت بها، وذاقت، وابنها، مرارتها لتتجاوزها، فتجتازها الى بر الأمان، والخلاص.

بعد هذا النقد نسأل عن مدى قدرة هذه النصوص على تحمل هذا الماضي، والحديث عنه بطرق شتى ووسائل عديدة ومختلفة.

انه الفعل الانساني الذي رافق عملية القص وجعلها عملية تنبض بكل ما تنبض به انسانية الانسان في توظيف الذاكرة لها وذلك بالحنين للماضي، أو الحزن على لحظة مضت أو إدانة هذا الماضي لو كان سيئا.