اخر الاخبار

إنّ فكرة الانطباع القصصي التي أقدمها للمتلقّي تحمل أبعادا نفسية وإنسانية خالصة، فهي تمثل ترجمة لدواخل الفرد، ودعوة لإفساح المجال أمام تسطير هذه الدواخل في النسيج القصصي، حيث تقوم هذه الفكرة على مبدأ تأثر الكاتب بمشهد مرئي، أو مسموع ربّما يشارك في صنعه، ويكون فاعلا في تكوينه، ثم يثير هذا المشهد بما يحمله من تداعيات دواخل الكاتب النفسية ليعبّر عنها على سطح الورقة، والقارئ حينها سيستمتع بقراءة الدواخل النفسية للكاتب التي قد تشكّل علامة فارقة غير معتادة ، والانطباع القصصي مصطلح اقترحته لتسمية هذا النوع من السّرد الذي وضعت له محددات لخّصتها بالاتي بعد أن أوردت نموذجا منه :    

1- الانطباع القصصي يرتكز على وجود حدث معين يقع في وقت سابق لِلَحظة التلقي، أو في بدء هذه اللحظة نفسها. هذا الحدث ليس مُتخيّلا إنما يحمل الطابع العفوي الصادق غير القصدي الذي يقع مصادفة من دون تخطيط مسبّق لكنّه يحمل من عوامل التأثير مايجذب هذا المتلقي (الكاتب) ويؤثر فيه.

2- حيّز المكان يغلب كثيرا على حضور الزمان في التجسيد القصصي ، وهو نتيجة طبيعية لآلية الاختزال التي يعمد إليها الكاتب .

3- الشخصيات في الانطباع القصصي تنفتح أمام تجسيدها في النسيج الكتابي بمعنى أنّ عدد هذه الشخصيات يكون مفتوحا بصورة منطقية مادام الحدث يحتاجهم، وربّما يشار إلى هذه الشخصيّات بالصيغة الجمعية.

4- الانطباع القصصي تجسيد حيّ للكاتب نفسه الذي يقدّم للقارئ دواخله،  وانعكاسات رؤاه، ومواقفه الشخصية إزاء الحدث، والشخصيات المشاركة فيه من دون تصوير لشخصيات مفترضة غير حقيقية.  

وهذا انموذج قصصي من تأليفي على وفق (الانطباع القصصي) :

( سيروتونين )

تأمّلني كثيرا، وبانت على محيّاه علائم التأثر والعطف، وهو يقول مقطّبا حاجبيه، وزامّا جانبي فمه :

- لديك نقص في إفراز هرمون السيروتونين، نقص يسبب لك الشعور بالكآبة والضجر والشرود، ويجعلك تنفر من التواصل مع الاخرين، وتجد صعوبة في التفاعل مع الناس، وتقلّ لديك الرغبة في حضور المناسبات الاجتماعية، ويجعلك طيّبَ القلب جدّا تملأُك ينابيعُ الرحمة تجاه مخلوقات الله لتتفجّر من قلبك المتعب، ولامفرّ أمامك غير جرعات قليلة من الخمرة حتى تستطيع التماهي، والانسجام مع الاخرين.

زحفت غمائم اليأس، ورياح الحزن على وجهي الذاوي لترسم الأسى على الجبين المتغضّن، والعينين الذابلتين، وأجبته :

- ألا يوجد دواء، وعلاج طبّي لحالتي، فقد تعبت جدّا من حياتي هذه يادكتور. 

تقدّم الطبيب نحوي بمسافة مكّنت ذراعه من أنْ تربت على كتفي قائلا بابتسامة وادعة :

- هناك علاج طبّي عبارة عن حُقنٍ بمقاديرَ معيّنة من هرمون السيروتونين والدوبامين، لتتخلّص من أجواء الحزن التي تعتصر قلبك، ولكنْ من مضاعفات هذا العلاج أنّه سيحدّ كثيرا من مستويات العطف، والرحمة التي عَرفك الناس بها؛ بل ربّما ستتغيّر جذريا لتكون أكثر حدّة، وغِلظة في التعامل مع الاخرين..  

سحبتُ عيناي بعيدا عن عيني الطبيب، وجدران غرفته وأجوائها، وتساءلت مع نفسي :

- لو كان لدي سيروتونين كافٍ سأصبح إنسانا اخر، وسأتخلّص من نوبات الحزن، والكآبة، والضجر القاسية، وسأشعر بالمرح المتواصل، وأظهر مواهبي وقدراتي الشخصية لكلّ الناس من دون خشية من نكوص، أو ملل من التواصل معهم، بل ربّما أُصبح مسؤولا كبيرا في الدولة، فأنا أشعر أنّ لديّ مقدرة كبيرة على الإدارة، وربّما أستثمر موهبتي الأدبية التي أشعر بها حبيسة في أعماقي إلا من أنامل تمسك بالقضبان لأكون شاعرا، أو قاصّا كبيرا، وربّما، وربّما ......... تعود عيناي السّارحتان إلى الطّبيب، وهو ينتهي من آخر كلماته، وماكان منّي إلا أن أقول له :

 - دكتور لقد وجدتُ ذاتي في نقص هرمون السيروتونين هذا، وعشقتُ الحزن، والكآبة، والأسى لأنّ هذا العشق جعلني أطيبَ خلق الله، وأرقّهم شعورا ..أريد أن أبقى طيّبا، وطيّبا جدّا .. كما هو الله طيّب جدّا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*روائي وناقد -  بغداد / الجامعة المستنصرية