اخر الاخبار

يظل سؤال الشعرية من أكثر الأسئلة التباسا، وغموضا في التعاطي مع مفهوم الشعر وتوصيفه، وحتى مع تاريخ تطور نظرية الشعر، فبقطع النظر عن مفهوم ارسطو حول "فن الشعر" وعن الاطروحات التي اجترحها النقد العربي القديم، حول صناعة الشعر وتصويره ولغته، فإن الشعر يظل "فنا" سائلا، يتمرد على التاريخ، وعلى النمط والمعيار، ولعل ما تحدث به الجاحظ وحازم القرطاجني وابن سلام الجمحي والجرجاني يؤكد هذا التغاير الذي يمتلكه الشعر، بوصفه فن التعالي من جانب، وفن السحر البلاغي الذي تشتبك به العلامات والتوريات، مثلما تشتبك باحالات تقود الى ما هو نفسي واجتماعي وانثربولوجي..

لقد تطور هذا المفهوم ليبدو فاعلا في تمثيله ل"العقل الثقافي" ولفاعلية تحققه في المدونات الشعرية والاغراض، وفي استثارة التخييل، وعلى نحوٍ جعل من تسمية الشعر ب"الديوان" تمثيلا وجوديا والذي استخدمه الشعراء وعلماء اللغة والنحو والصرف والكلام، في سياق التعريف بعلاقة الشعر بالمعاني والافكار، وصولا الى معرفة ما يمكن أن يخفيه الشعر من السرائر والمجازات والاستعارات، التي تخرج به من المباشرة الى الايحاء والتلميح، ومن الغرض الى ما وراءه، حيث يربط الشاعر شعريته بالموقف، مثلما يربطها بالفن والجزالة والبلاغة وحسن التصوير..

النظر الى "الحداثة" لا يعني الانفلات عن التاريخ، ولا يعني وضع "الماضي الشعري" في المتحف، وتجريده من الأثر، لأن مفهوم الشعرية، أو التمثيل الفني لكتابة الشعر، ليس حكرا لما طرحه الشكلانيون الروس، ولما ارتبط بها من خلال اطروحات البنيوية، وعلم اللسانيات و"شعرية الخطاب" بل نجد في الأثر العربي ما يوازي هذه القراءات، حتى وإن كانت بصيغ مختلفة، حيث اشار لها حازم القرطاجني في كتابه "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" بالقول "إن الحيلة فيما يرجع إلى القول والمقول فيه، هي محاكاته وتخييله بما يرجع إليه، أو بما هو مثال لما يرجع إليه هما عمودا هذه الصنعة، ومما يرجع إلى القارئ والمقول له كالأعوان والدعامات لها"

هذا التوصيف يؤكد التلازم الشعري وحتى النحوي والخاص بثنائية القول والغرض، والقارىء والنص، وهي امور تدخل في تداولية الشعر، مثلما تدخل في توصيف مجالاته الفنية كالمحاكاة والتخييل، فضلا عن طابعها المفهومي الذي تكرس مع اطروحات عبد القاهر الجرجاني في جعل البلاغة توكيدا للشعرية، وأن " سبيلَ الكلام هو سبيل التصوير والصياغة، وإن سبيلَ المعنى الذي يعبَّر عنه هو سبيلُ الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه" حيث يكون تكامل الشعرية رهينا بتكامل الشاعر، ليس على مستوى الصياغة فحسب، بل على مستوى الوعي بالشعر بوصفه حاملا للأفكار ولتدابير حسن القول الذي اعطى للشعر وجودا متعاليا، وازياحا اخرجه من التاريخ الى ما تدونه الذات عن الخاص والحسي والتأملي..

إن درسنا لمفهوم الشعرية يتمثل لمقاربات نود أن نطرحها في قابل الأيام، حول العلاقة بين المفهوم الشعري والفكر، وبين الصنعة والوعي بحمولاتها الرمزية وتقاناتها التي تنهل من اللغة تشكلاتها وتصاويرها، وهي القضية المهمة في تمثيل الشعرية، والتعرّف على تحولاتها التي اغنت "الشعر العربي" والشعر العراقي بشكل خاص بكثير من السمات والميزات التي جعلت من فضاءاته الأكثر تمثيلا لمشروعات التجديد التي بدت مع ابي نواس وابي تمام وصولا الى الجواهري والى شعراء ريادة التجديد في النصف الاول من القرن العشرين ولنا وقفة مع هذا المسار، في اشتغالاته واسئلته وفي تحولاته العاصفة..