اخر الاخبار

من العسير التنقيب عن يحيى السماوي في شعره، فهو يتوزّع على أكثر من اثنين وعشرين مجموعة شعرية، بيد أنه قد يبدو من اللامجدي الخوض في هذا النمط الخارجي من التنقيب، فليس أمهر من الشاعر بما يملك من أدوات وخبرات أسلوبية على إجادة لعبة ثنائيته الضدية (التواري و الظهور) أو (الغياب والحضور) داخل لغته بحسب ما تمليه عليه القصيدة، وليس بحسب ما يُمليه هو عليها، لأن سطوة الأدوات داخل القصيدة على الشاعر أمضّ من سطوة الشاعر داخل القصيدة على أدواته. وهذا الفصل ليس مجرّد تخريج نظري، بل هو فصل ما بين التاريخ (أي الخارج) وما بين الفن (أي الداخل)، فالقصيدة هي التي تكتب نفسها من داخلها، ولا تُكتب من خارجها، وأن أية محاولة من الشاعر للجم اندفاع القصيدة والتضييق على جنوحها الطفولي ورغبتها في التحرر والانعتاق في مقابل فرض مخططه الفني عليها بكامل تفاصيله وأبعاده الهندسية الدقيقة المعدة مسبقاً، أن أية محاولة من هذا القبيل ستُنتج قصيدة أو نصاً معقلناً يمثل الشاعر أكثر مما يُمثل الشعر، أما دور الشاعر في تحقق رغبات القصيدة فهو أن يتلقي إيعازاتها ويُحسن تنفيذها. وفي خضم هذه العمليات الداخلية فإن الأدوات المعبرة أو المُجسّدة لذلك الداخل أشبه بطاقيات الإخفاء التي تختزن الطاقة السحرية الهائلة الكفيلة بتغييب الشاعر داخل نصّه أو قصيدته، كما أنها الكفيلة بإظهاره. وما أكثر طاقيات الإخفاء التي يستعين بها الشعراء للتخفّي أو للظهور. فلكل قصيدة طاقيّتها، بل ولكلّ حركة إيقاعية داخل القصيدة الواحدة طاقيّتها.

وما الثنائيات التلازمية أو التوافقية أو التكاملية أو الثنائيات الضدية إلا مظاهر لطاقيات الإخفاء التي يستعين بها يحيى السماوي ليس للتخفّي أو للتجلي فحسب، بل كنسق مضمر يستعين بإمكانياته التدليلية اللامحدودة للتمويه على حركة القصيدة الداخلية من أجل إطلاقها بالاتجاه الذي يحقق أهدافه الفنية من جهة، ويبلّغ رسالته الإنسانية من جهة أخرى في مظهر من التوازن المسؤول لا يرجّح أو يرتهن أحد الطرفين للآخر، لاسيما أنّ مسيرة حياة الشاعر باتجاه اليسار والتي بدأها مع أولى خطواته مع الشعر لن تمكنه من الحياد عن متطلبات تلك الرسالة.

هذه القراءة ليست في قصائد الشاعر المطبوعة في مجاميعه، بل هي لبعض قصائده المنشورة على موقع التواصل الإجتماعي facebook، وسواء كانت القصائد من هذا المنشأ أو من ذاك فإن العالم المرجعي لكلا المجموعتين واحد، والصوت المعبر عن ذلك العالم واحد، والسُنن التي تتحرى عنها هذه القراءة هي بالتأكيد بصمة الشاعر الملازمة له، لا تُزيّف، أو تُشوّه أو تُنحل أينما توزعت قصائده. وبالرغم من أن هذه القراءة غير معنية بالوقوف على الأصول التاريخية لمصطلح الثنائيات الضدية ومراحل تطوره وأشكال تحولاته، إلا أن ذلك لا يمنع من الوقوف على الواجهات الخارجية لبعض تلك المراحل مع الإشارة إلى أن مفهوم المصطلح بصيغته المتداولة، أو بكل وحدة من طرفيه سواء ما يتعلق بالثنائيات أو بمفهوم الضد أو التضاد هي ليست مفاهيم مستحدثين، فقد عرفها النقاد العرب الأوائل، إلا أنهم لم يتفقوا لها على تسمية موحدة، فقد توزعت التسميات ما بين الطباق أو التطبيق أو المطابقة أو التطابق، مع التنويه إلى أن التطابق في البلاغة هو غيره في النحو، إذ أنه في النحو يعني (العلاقة التي تربط طرفي الإسناد في الجملة وهما المبتدأ والخبر) (1). أما بالنسبة إلى مفهوم الثنائيات الضدية ففي المنظور النقدي القديم لم ترد (مصطلحاً قائماً بذاته، بل وجدت في مفهوم التضاد مفهوماً متداخلاً مع المصطلحات البلاغية الأخرى ولعل أهمها: الخلاف والطباق والتكافؤ والمقابلة والتناقض) (2)

ومع اختلاف النقاد العرب في تعريف المصطلح أو في تسميته إلا أنهم اتفقوا جميعاً في كونه الجمع بين النقيضين، فقد عرّفه أسامة بن منقذ في (باب طبقات التطبيق) بصيغة (أن تكون الكلمة ضد الأخرى) (3) والضد هو العكس مع خلاف ابن منقذ في كون الأول يحدث في لفظ ومعنى الكلمة، بينما العكس تختص به الجمل. فقد جاء في باب العكس (هو أن تأتي الجملتان إحداهما عكس الأخرى كما قال الله تعالى “ يُخرج الحيّ من الميّت ويُخرج الميت من الحي “) (4)

لا تُسلم الثنائيات الضدية مفاتيحها في أغلب قصائد يحيى السماوي للقراءة الأولى، وقد يؤجل البحث عنها، أو في خفاياها أحياناً إلى مرحلة الفحص ولم الشعث، فهي عادة ما تتوارى تحت طبقة من الموجهات المضللة (بكسر اللام الأولى)، أو المموّهة بتداعيات وتفرّعات الصورة الشعرية التي تبدو في ظاهرها مركبة أو متفرّعة، لكنها في حقيقتها صورة واحدة تتفرّع من داخلها إلى صورتين ضديتين، فمن قصيدة (أنا آخر العشاق):

(وبعثت نهري من رميم جفافه

فاخضرّ شاطئه...)

إلى هنا تبدو الصورة التي تتمخّض عنها ثنائية (الجفاف / الإخضرار) واحدة، ولكنها سرعان ما تتفرّع إلى ثنائية أخرى من خلال الصفة الملحقة بالفاعل (الشاطيء)، فهو في صورته الأولى شاطيءٌ (مُقرّح) ولكنه في الشق الثاني من الثنائية (استعاد روافده)، وبذلك يكون قد برأ من تقرّحه. لكن هناك حالة من التقابل ما بين وحدتين دلاليتين من مجالين مختلفين، كالتقابل ما بين (العين والرحلة) حيث جُمعا معاً في بنية صورية واحدة من خلال عنصرين نحويين هما: أداة العطف (الواو) والصفة (زائدة)، وكلا الوحدتين تنتميان إلى المتكلم (عيناي ورحلتي)، وفي حين ربطت الصفة ما بين الوحدتين الدلاليتين بتوسط الغائب / الغائبة، ربطت أداة العطف ما بين الجملتين الشعريتين اللتين تشكل كل وحدة دلالية من الثنتين بؤرتها، وحسب التركيبة التالية:

ألجملة الأولى:

ألوحدة الدلالية الأولى = عيناي

ألصفة = زائدتان

ألتوسط = عليكِ

أداة العطف: (ألواو)

ألجملة الثانية:

  ألوحدة الدلالية الثانية = رحلتي

  ألصفة = زائدة

  ألتوسط = يا مقدسة البداية والنهاية

والملاحظ أنّ البنيتين الصوريتين اللتين تدوران معاً في فلك (المخاطب / المخاطبة) قد أضفتا على حالة التقابل ما بين الوحدتين الدلاليتين (عيناي ورحلتي) مظهراً ضدياً، وإن كانت دلالتا الوحدتين المتباعدتين نسبياً لا تكشف بجلاء عنه، ولكنه تجلى فيه من خلال انعكاس الصيغتين الضديتين للمقدسة / المخاطبة، أي (البداية/ النهاية) اللتين جاءتا من الناحية النحوية خبراً ل (تكوني) ولكنهما من الناحية المعنوية صفتان في الوقت ذاته للمقدسة:

(عيناي زائدتان إن لم تُطبقا جفناً عليكِ

ورحلتي إن لم تكوني - يا مقدسةُ - البدايةَ والنهاية

زائدة)

فهاتان الصفتان ليستا مجرد ملفوظين لملء الفراغ الإيقاعي، بل هما موجهان دلاليان للمعنى المتفرّع عن الوحدتين الدلاليتين (ألعينان) و (رحلتي) إذ أنّ توسط المقدسة في المعنى المتفرع عن كل من هاتين الوحدتين يساهم بدوره في توسط لازمتيها أيضاً (البداية والنهاية) بين تينك الوحدتين.

وتنفتح أحياناً الثنائيات المتناغمة على الثنائيات الضدية لتشكلا معاً نظاماً ثنائياً غيرياً، كما في قصيدة (ضجيج أخرس) والتي أول ما تواجهنا فيها العنونة بثنائيتها الصوتية ما بين الصفة والموصوف المتضادين والتي لا نجد إيضاحاً صريحاً، أو حتى تلميحاً في القصيدة يغطي ما تثيره من تساؤلات عن دلالة الضجيج، لاسيما أنها قصيدة الصوت الواحد، صوت المتكلم، مع حضور المخاطب كضمير، وليس كفعل، ولذلك ظل موقعه داخل القصيدة متوارياً خلف نداءات المتكلم الكابحة المحذرة، من دون أن تصدر عن ذلك الأول أية إشارة، أو ردة فعل، تكشف أولاً عن موقعه أو هويته، وأن تسوّغ ثانياً دواعي الإنفعال والتوتر في التوجيهات الكابحة للمتكلم.

تستهل القصيدة بحشد من التوصيفات المتناغمة والمتعارضة في الوقت عينة موجهة من الصوت الوحيد/ صوت القصيدة أو صوت الشاعر إلى المخاطب الذي يمكن أن يكون هو ذاته الشاعر لتكون القصيدة بهذا المعنى صدى ارتداد صوت الشاعر إلى ذاته، وما هذه الآلية في الحوار الذاتي إلا وسيلة للتمويه على الذات، ومنحها مظهر الآخر، وهي وسيلة لجأ إليها الشاعر في أكثر من قصيدة للتحرر من هيمنة الغنائية الصرفة، والحد من سطوة الذات. فإن كنا قد اتفقنا بدءاً مع هذا التأويل، فسنقرأ القصيدة كرسالة انعكاسية من الشاعر إلى ذاته في مظهر أقرب إلى جردة حساب مثقلة بتعداد الخسائر من أجل إقناع الآخر بوقف اندفاعه. وفي هذه الجردة يتخذ الشاعر عدة إجرائية بعضها متوافق وصفياً كما يتجلى ذلك في الإستهلال، من قبيل توصيف الطفل بالفتى، وبعضها الآخر متضاد، ويتجلى تضاده بثلاثة مظاهر:

ألمظهر الأول:

حيث تثبّت الثنائية ضمن قالب زمني ضدي، يتجلى فيها المخاطب بصيغتين، فهو من جهة متناغم عمرياً إلى حد ما، كما في (ألطفل / الفتى) وقد أشرنا لذلك فيما سبق، لكن هذا المظهر المتناغم والمتكامل يتراصّ كطرف أول في ثنائية ضدية طرفها الثاني (الكهل)، أي:

- الطرف الأول المزدوج = (ألطفل – الفتى)

- الطرف الثاني = الكهل

المظهر الثاني:

ويتسم بكونه مظهر سلوكي يرتسم ضمنه المخاطب (الطفل) بسلوكين متضادين هما (القتيل / القاتل) ولعل هذا النمط من التضاد المتطرف ما بين طرفيه من جهة، ووقوعه وصفاً ما بين أطراف ثنائيات متناغمة تتضاد مع الطرف السالب فيها هو الذي يخفف من غلواء التوصيف، ويمنح الطرف السالب (القاتل) تزكية سلوكية تسمح بقبوله طرفاً إيجابياً في فضاء الهيمنة المجازية للتوصيفات.

عرض مقالات: