اخر الاخبار

لم يكن الأدب الروائي العالمي بعيدا عن الموروث الأدبي العربي في يوم ما منذ ما قبل رواية (روبنس كروزو) الى يومنا هذا، فقد منحته حكايات ألف ليلة وليلة، خاصة، الكثير من الموضوعات، لتكون المصدر الرئيسي للكثير من هذه الموضوعات، والأحداث، والشخوص، التي بنيت عليها رواياته، أو قصصه، أو قصائده، أو مسرحياته، وآخر هذ النتاج، هي رواية “اسم الوردة” للروائي أمبرتو إيكو، إذ تناصت مع احدى حكايات الليالي التي وردت في الليلة الخامسة، الصفحة 26/ الجزء الأوّل، فقد ورد في هذه الليلة حدثا غير عادي بين الملك والحكيم الذي أراد أن يقتله الملك، فطلب منه الحكيم أن يمهله يوماً واحداً ليودع عائلته، ويجلب له كتابا أثريا فأمهله ذلك. وكان الكتاب الذي جلبه الحكيم للملك منقوعة أوراقه بالسم، وكل من يقلبها يسري السم في جسمه.

((فلما تحقق الحكيم، أيها العفريت، أن الملك قاتله لا محالة قال له : أيها الملك، إن كان لا بد من قتلي فامهلني حتى أنزل إلى داري، فاخلص نفسي وأوصي أهلي وجيراني أن يدفنوني ، وأهب كتب الطب  وعندي كتاب خاص أهبه لك هدية تدخره في خزانتك، فقال الملك للحكيم : وما هذا الكتاب ؟ قال : فيه شيء لا يحصى، وأقل ما فيه من الأسرار أنك إذا قطعت رأسي وفتحته وعددت ثلاث ورقات ثم تقرأ ثلاثة أسطر من الصحيفة التي على يسارك ، فان الرأس تكلمك ويجاوبك عن جميع ما سألته عنه  فتعجب الملك غاية التعجب واهتز من الطرب وقال له : أيها الحكيم ، وهل إذا قطعت رأسك تكلمت؟ فقال : نعم أيها الملك وهذا أمر عجيب. ثم إن الملك أرسله مع المحافظة عليه ، فنزل الحكيم إلى داره وقضى أشغاله في ذلك اليوم وفي اليوم الثاني، ثم طلع الحكيم إلى الديوان وأطلع الأمراء والوزراء والحجاب والنواب وارباب الدولة جميعاً . وصار الديوان كزهر البستان . وإذا بالحكيم يدخل الديوان ويقف قدام الملك ومعه كتاب عتيق ومكحلة فيها ذرور وجلس وقال : إنتوني بطبق . فأتوه بطبق وكب فيه الذرور وفرشه وقال : أيها الملك، خذ هذا الكتاب ولا تعمل به حتى تقطع رأسي ، فإذا قطعته فاجعله في ذلك الطبق وأمر يكبسها على ذلك الذرور ، فإذا فعلت ذلك فان دمها ينقطع. ثم افتح الكتاب، ففتحه الملك فوجده ملصوقاً فحط اصبعه في فمه وبله بريقه وفتح أول ورقة والثانية والثالثة ، والورق ما ينفتح إلا بجهد . ففتح الملك ست ورقات ونظر فيها فلم يجد فيها كتابة فقال الملك: أيها الحكيم ما فيه شيء مكتوب . فقال الحكيم: قلب زيادة على ذلك . فقلب فيه زيادة ، فلم يكن إلا قليل من الزمان حتى سرى فيه السم لوقته وساعته ، ذلك ان الكتاب كان مسموماً. فعندئذٍ تزحزح وصاح وقال : قد سرى في السم . فانشد الحكيم رويان يقول : [من البسيط]

 تعلموا فاستقالوا في حكومتهم        وعَـــــــــــن قَلِيلِ كَأَنَّ الحكم لم يَكُنِ

 لــــو أنصفُوا انْصَفُوا لَكِن بَغُوا       

                        فَبَغَى عليهم الدهر بالآفات والمحن

 وأصبحوا ولِسانُ الحَالِ يُنشِدُهُم     

                              هذا بذاك فلا عتب على الزمن

فلما فرغ رويان الحكيم من كلامه، سقط الملك ميتاً من وقته ، فاعلم أيها العفريت، أن الملك يونان لو ابقى الحكيم رويان لأبقاه الله ، ولكن أبى وطلب قتله فقتله الله . وأنت أيها العفريت لو أبقيتني لابقاك الله .

وادرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.)).

هذه الموتيفة من حكاية الليالي استعارها إيكو لموضوع روايته “اسم الوردة” والتي تعد من روايات ما بعد الحداثة، ومضمونها يحكي عن جريمة حدثت في أحد الأديرة في بداية القرن الرابع عشر في احدى المقاطعات الفرنسية.

تعتمد الرواية على أسلوب بوليسي لزيادة التشويق، إذ قام الرهبان الفرنسيسكان في تسميم صفحات (كتاب أرسطو عن الضحك) ومحاولة قتل الرهبان الأخرين، وحقق في الأمر الراهب (إنسوملك) واكتشف أن سبعة الرهبان وجدوا مقتولين بالسم.

جاء على الصفحة/551:

((صمت الشيخ، وكانت يداه مفتوحتين فوق الكتاب كما لو كان يمسح على صفحاته أو كمن يبسط الأوراق لقراءتها أحسن أو كمن يريد حمايته من قبضة جشعة .

وقال له غوليالمو: على كل حال كل هذا لم يُجد نفعاً. الآن انتهى كل شيء. وجدتك ووجدت الكتاب ومات الآخرون عبئاً. فأجاب يورج: كلا، لم يموتوا عبثاً. ربما كان عددهم أكثر مما ينبغي. وإن كانت تلزمك حُجّة تبرهن على أن هذا الكتاب ملعون فقد وجدتها. ولكن لا ينبغي أن يموتوا سُدًى. وحتى لا يموتوا سُدّى فيا حبذا ميتة أخرى. قال ذلك وأخذ يمزق بيديه النحيلتين الشاحبتين صفحات المخطوط الهشة قطعاً وأشرطة، ووضعها خرقاً خرقاً في فمه ثم مضغها بتأن كأنه يتناول القربان ويريد أن يجعله لحماً من لحمه . وكان غوليالمو ينظر إليه مُنْدَهِشاً وكأنه لم يدرك بعد ماذا كان يفعل. ثم انتبه وارتمى إلى الأمام صائحاً ماذا تفعل؟ فابتسم يورج : كاشفاً عن لثاته النازفة، بينما كان لعاب مُصْفَر يسيل من شفتيه الشاحبتين على شعر ذقنه الأبيض والنادر. أنت الذي ينتظر صوت البوق السابع، أليس كذلك؟ اسمع الآن ما يقول ذلك الصوت: «اختم على ما تكلمت به الرعود السبعة ولا تكتبه، خذه وكله، فسيجعل جوفك مراً ولكنه في فمك يكون حلواً كالعسل. انظر الآن سأكتم ما لا ينبغي أن يُقال في القبر الذي سيصيره جسمي». يا الله وضحك يورج نعم ضحك للمرة الأولى سمعته يضحك. ضحك بحنجرته، من دون أن تتخذ شفتاه هيئة الحبور كان يبدو وكأنه يبكي: «لم تكن تنتظر هذه الخاتمة يا غوليالمو أليس كذلك؟ انتصر هذا الشيخ، بمعونة الرب مرة أخرى، أليس كذلك؟ وبما أن غوليالمو كان يحاول فتح الكتاب، أدرك يورج من ذبذبات الهواء التي أحس بها وتراجع إلى الوراء ضاغطاً بالكتاب على صدره بيده اليسرى مواصلاً باليمنى تمزيق الصفحات ووضعها في فمه. كان من الناحية الأخرى من الطاولة فلم يكن غوليالمو يقدر على الوصول إليه وعندما حاول أن يطوف بالحاجز أسقط مقعده وانحشر فيه ثوبه مما جعل بورج يحس بالجلبة وضحك ثانية بصوت أعلى هذه المرة، وبسرعة غريبة مد يده اليسرى متحسساً السراج، تقوده إليه الحرارة ولما وصل إلى الشعلة ضغط عليها بيده دون أن يخشى الألم فانطفأت وغرقت القاعة في الظلام بينما سمعنا لآخر مرة ضحكة يورج، الذي كان يصيح: اعثرا علي إن استطعتما لأنني أرى الآن أحسن منكما!». ثم صمت ولم يُسمع له حس بعد ذلك، متحركاً بتلك الخطوات الصامتة التي كانت تجعله يظهر فجأة، وكنا نسمع فقط، من حين لآخر، في نقاط مختلفة من القاعة صوت الورق وهو يُمزق. وصاح غوليالمو “أدسو، قف على الباب ولا تدعه يخرج!”

ولكنه قال ذلك بعد فوات الأوان لأنني، وقد كنت منذ بضع لحظات تهزني الرغبة في الارتماء على الشيخ عندما بقينا في الظلام ارتميت إلى الأمام محاولاً أن أطوف بالطاولة من الناحية المعاكسة الأستاذي. وفهمت بعد فوات الآوان أنني تركت ليورج وقتاً طويلاً ليصل إلى الباب لأن الشيخ كان يجد وجهته في الظلام بثقة عجيبة. وفعلاً سمعنا صوت ورق يُمزّق خلفنا، وكان ضعيفاً، لأنه كان يأتي من القاعة المجاورة. وفي الوقت نفسه سمعنا صوتاً آخر، صريراً حاداً ومتدرجاً، أنين مجاور فصاح غوليالمو «المرآة، إنها ستنغلق علينا!» وانطلقنا نحو المدخل، متبعين مصدر الصوت، وتعثرت أنا في مقعد فرضَت ساقي، ولكني لم أحفل بها لأنني فهمت في ومضة برق أنه لو حبسنا يورج هناك لاستحال علينا الخروج: لن نستطيع إيجاد الوسيلة لفتح الباب في الظلمة، دون أن نعرف من تلك الناحية ماذا يجب أن نحرك وكيف.)). 

ان استعارة ثيمة ما من نص أدبي، والاستفادة منها في نص أدبي آخر، ان كان هذا النص الثاني للكاتب ذاته أو لغيره، في الدراسات الحديثة تسمى (تناص) بين النص السايق، والنص الجديد بعيدا عن استخدام مصطلح آخر مثل السرقة لأن السرقة لا تقع بين الأدباء إلا نادرا. الاختلاف الحاصل بين النصين، القديم، والجديد، هو ان نص الليالي يجعل الكتاب المسموم بيد الملك الذي عاقب الحكيم بالقتل فما كان من الحكيم إلا أن أهداه كتابا أثريا لو قلب صفحاته لانتقل السم عن طريق اصبعه الى لسانه فيسرى السم في جسده.

وفي النص الجديد، الرواية الأجنبية، (اسم الوردة) يلتهم أوراق الكتاب صانعه، وقاتل الآخرين به، وهو الشيخ “يورج”، وعندما أراد غوليالمو أخذ الكتاب وضع يديه في قفازين قبل أن يلمسه.

ـــــــــــــــــــــــــــ

 المصادر:

1 – ألف ليلة وليلة – ج1 – دار صادر – ط2 – 2008.

2 – اسم الوردة – أمبرتو إيكو – تر: أحمد الصمعي – دار الكتاب الجديد – 2013.

عرض مقالات: