اخر الاخبار

يعد القطاع الزراعي في العراق، واحدا من أكثر القطاعات التي جرى تدميرها وإهمالها طيلة الفترات الماضية. وتناوبت عوامل مختلفة على الإضرار بالمساحات الزراعية والمناطق الريفية، منها طبيعية، وأخرى بشرية، ما دعا العديد من سكان هذه المناطق لأن يهربوا صوب المدن، بحثا عن فرص جديدة للعيش. فيما يبقى الواقع الراهن يزداد سوءا، وبات العراق على أعتاب النتائج التي يحذر منها الخبراء والتقارير الدولية، وهي التدمير الكامل لما تبقى من حظوظه في الجانب الزراعي.

مراحل تدميرية مأساوية

تؤكد التقارير الدولية أن التدهور البيئي خلال الفترة التي تلت عام 2003 وصل إلى مراحل كبيرة أضرت بشكل بليغ في القطاع الزراعي، وأصبح هذا الملف يتضمن قضايا إشكالية لا حصر لها مثل تلوث الهواء، شح المياه وسوء نوعيتها، الإضرار بالتربة، التصحر، الجفاف وغيرها من المشاكل التي تعود إلى نتائج الحروب والكثافة السكانية والتأثيرات الخارجية والفشل الحكومي في إدارة هذا الملف.

ويكشف تقرير صادر عن بعثة “يونامي” في العراق، طالعته “طريق الشعب”، إن هذا التدهور البيئي “ساهم بشكل مباشر في هجرة سكان الريف بحثا عن فرص أخرى”.

وبحسب التقرير “أجرت المنظمة الدولية للهجرة ومنظمة البحث الاجتماعي، في شهري تموز وآب 2021، دراسة استقصائية لـ 802 من السكان المحليين والمهاجرين في مدينة البصرة، لتحديد القضايا الرئيسية، التي تعيق قدرة المهاجرين على الاندماج في البيئات الحضرية الهشة بالفعل بسبب المناخ، حيث تعاني مدن جنوب العراق من سوء الأمن الاقتصادي والحوكمة، وقد لا تكون مستعدة جيدا لاستيعاب تدفقات المهاجرين”، مضيفا “أن تغير المناخ وعدم المساواة في البصرة جعل المهاجرين الذين يصلون من الريف يميلون إلى التجمع في الأحياء التي تعاني من مشاكل اجتماعية متعددة تتعلق بالأمن الاقتصادي والسلامة والحصول على الحقوق وانتقال الكثير منهم إلى أماكن الإيواء ( العشوائيات) المعرضة للإخلاء والعمل ضمن وظائف منخفضة الأجر في القطاعات غير الرسمية. كما إن معظم المهاجرين هم في الأصل من المحافظات والأقضية المجاورة وتفيد المؤشرات الرئيسية بأن التحركات ليست موسمية بل دائمة. وأن أسباب ذلك تعود إلى أن أكثر من نصف المهاجرين لا يستطيعون تسديد تكاليف المعيشة في المدن لكنهم يفضلون البحث فيها عن فرصة جديدة بعدما أعدمت الفرص في مناطقهم الريفية”. 

ويؤكد التقرير الدولي أن عواقب التحديات المناخية التي يوجهها العراق، لا سيما تلك المتعلقة بندرة المياه “لها آثار بعيدة المدى وعاجلة وتتطلب اتخاذ إجراءات منسقة لتخفيف الاحتياجات وتجنب المزيد من النزوح ومنع تفاقم المشاكل الاجتماعية القائمة”. 

وقالت كليمنتين فافيير، مديرة قسم العودة والانتعاش في المنظمة: “يشير هذا التقرير إلى ضرورة اتباع نهج ذي شقين لتعزيز قدرة المناطق التي تشهد تدفقا سكانيا على التكيف وفي الوقت نفسه تقديم الدعم إلى الأقضية الريفية التي تهاجر منها الأسر بسبب التدهور البيئي الشديد وانعدام الفرص الاقتصادية المتنوعة”.

ووفقاً للدراسة، أفاد أكثر من نصف الأسر المهاجرة بأنها “لا تستطيع تحمل تكاليف الغذاء أو المواد الأساسية وأن 53 في المائة منها لا تملك إمكانية للوصول إلى شبكة الأمان المالي”. ويميل المهاجرون أيضاً، بحسب الدراسة، إلى “الإبلاغ عن استبعادهم في الحصول على الخدمات العامة وغيرها من الحقوق التي قد تشمل العمل والتوظيف في الشرطة وتسوية النزاعات بشكل رسمي والضمانات المتعلقة بحقوق الملكية”.

الزراعة لم تعد كالسابق

وواجه الواقع الزراعي مصاعب كبيرة بدأت في ثمانيات القرن الماضي عندما قام النظام السابق بتجفيف الأهوار وتدمير زراعتها، حتى تسارعت الأحداث وولت الفترة الحيوية للزراعة العراقية، ليتبقى جزء بسيط لا يخلو من المعاناة ويصطدم بالصراع المائي مع تركيا وإيران على النهرين الرئيسيين في البلاد وبقية الروافد المائية.

وتسببت قلة المياه بجفاف مناطق زراعية كانت مميزة بمنتجاتها، ومن الأمور التي جعلت الكثير من المزارعين يهاجرون صوب المدن هو ضعف دعم الفلاحين واستيراد المنتجات والمحاصيل الأجنبية على حساب المحلية لأسباب تتعلق بالفساد وسوء التخطيط، فيما تحولت مساحات زراعية واسعة جدا إلى مناطق سكنية.

ويقول الباحث في الشأن الاقتصادي، صفاء الخزعلي، إن العراق يدفع ضريبة الخراب والإهمال الذي تعرض له القطاع الزراعي “وتمثل هجرة الريف نحو المدن في السنوات الحالية انعكاسا واضحا لحجم الأزمة التي لا تتضمن عواقب اقتصادية فحسب، بل عواقب اجتماعية”.

ويوضح الخزعلي خلال حديثه لـ”طريق الشعب”، أن التاريخ العراقي “تاريخ زراعي بامتياز. إن ما يجري حاليا هو تشويه الهوية الزراعية نتيجة ضعف البنى التحتية وتراجع النشاط الإنتاجي جراء الإهمال. وتمثل الهجرة من الريف إلى المدينة، والتي تتزامن مع أزمة عميقة لملف المياه، عواقب سلبية على مستقبل البلاد”، مضيفا “سوف تستمر الخسائر الزراعية التي تقدر بالمليارات، مع زيادة هائلة في نسب البطالة، الأمر الذي يترك تأثيره السلبي على الأمن الغذائي للعراق، كما سيلحق ضرراً بالثروة الحيوانية، لا سيما تربية الأسماك بسبب التصحر الحاصل تحديداً خلال هذه السنة. كما أن تقليل حصة المياه من قبل إيران وتركيا سوف يقلص قدرة البلاد على تطوير القطاع الزراعي”.

ويتابع الخزعلي، أن “العراق أصبح يستورد حتى التمور التي كان يصدرها. وتتعرض المحاصيل والمنتجات التي ينتجها إلى حرب خبيثة من قبل جهات متنفذة في الدولة، وهذا وصل أيضا إلى مستويات إنتاج القمح أيضا”، لافتا إلى أن “الأراضي التي يمكن أن تكون معقلا للزراعة وتربية الحيوانات والمواشي تواجه حاليا مخاطر أكبر من الماضي بسبب الجفاف”.

وفي حديث سابق لوكالة الصحافة الفرنسية، يصل الأمر بأحمد العيساوي، مدير الجمعية الفلاحية في النجف، إلى القول إن العراق “لم يشهد في تاريخه كارثة تشبه الكارثة الحالية في شح المياه”.

تداعيات الظاهرة

أسباب هجرة المواطنين من الريف إلى المدينة باتت كثيرة جدا، ولها تداعيات سلبية أيضا، بحسب الباحثة في الشأن الاجتماعي منى عباس.

وتقول عباس لـ”طريق الشعب”، إن “الجانب الاقتصادي هو الأساس في تنامي هذه الظاهرة خصوصا وأن الزراعة تشهد أسوأ فتراتها، فضلا عن مغريات المدينة والأمنيات بأن توفر فرص عمل مع أجور أفضل. إضافة إلى ذلك، فإن تهالك البنى التحتية في الريف سواء في الصحة أم التعليم أم النقل والمياه وغيرها وسهولة الحصول عليها بشكل أفضل في المدن تدفع بالمترددين في الريف إلى الهجرة”.

ووفقا لرأي الباحثة، فإن للأمر سلبيات عديدة أيضا تتمثل في “مساهمة الهجرة إلى المدينة في إحداث طفرة سكانية أنتجت مشاكل على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ومن أهمها التأثير بشكل سلبي على الإنتاج والتنمية في المناطق الريفية، وازدياد عدد السكان بشكل كبير في المدن، والذي يُسبّب ضغطاً كبيراً على الموارد الطبيعية والمرافق والخدمات، وبالتالي ازدياد المنافسة على الوظائف والمنازل والمرافق المدرسية وغيرها من الأمور التي تسبّب نوعاً من العبء على الحكومات الغارقة في الفشل والفساد”، لافتة إلى أن “الهجرة في ظل هذا المشهد تجعل قضية تزويد السكان بأبسط الخدمات، مثل السكن وإمدادات المياه والصرف الصحي والتخلص من النفايات أمرا صعبا جدا، وبالتالي تتفاقم المشكلة أكثر مع خسارة الحظوظ بإعادة الروح إلى القطاع الزراعي. كما أن للأمر ارتباطا بظهور المناطق العشوائية في المدن، الأمر الذي خلق المزيد من المشاكل كالتلوث، والجريمة، وغيرها”.