اخر الاخبار

في العراق اليوم، كل شارعٍ جديد لا يخلو من مطعمٍ أو مقهى، كل رأسمالٍ يبحث عن الربح السريع يجد ضالته في مشاريع الطعام والشراب، بينما تغيب المصانع والمعامل وكأنها إرثٌ من زمنٍ انتهى. لا صناعة، لا إنتاج، لا مشاريع تضع العراق على خريطة الاقتصادات الفاعلة، بل انه سوقٌ مفتوحة تكتفي بالاستيراد، وكأن البلاد قد تحوّلت إلى مطعمٍ كبير، تتعدد فيه قوائم الطعام، وتغيب عنه قوائم الإنتاج.

المفارقة الصادمة هي أن العراق لم يكن هكذا يومًا. كان بلدا يصنع الأقمشة، ينتج الأدوية، يصدّر المحاصيل، يبني صناعاتٍ ثقيلة، ويؤسس اقتصادا قائما على التوازن بين الإنتاج والاستهلاك. أما اليوم، فقد أصبح إنشاء مطعم أكثر ربحية من افتتاح مصنع، لا لضعف الكفاءة أو قلة الحاجة، بل لأن الدولة لا تدعم الصناعة، ولا توفّر التسهيلات لأصحاب المشاريع الصغيرة، إنما تُغلق في وجوههم الأبواب بالإجراءات المعقدة والضرائب الثقيلة، بينما تفتحها مشرّعة أمام المستوردين، وكأن الاقتصاد محكومٌ بلعنة الاعتماد على الخارج.

المشاريع الإنتاجية ليست مجرد أرقام اقتصادية، بل هي التي تصنع الاستقلال الحقيقي لأي بلد، وهي التي تخلق فرص العمل وتضمن الاستقرار الاجتماعي. لكن حين يُقتل الإنتاج عمداً، وتُترك المصانع لتنهار، يصبح العراقي مجرد مستهلكٍ ينتظر ما تجود به الأسواق الأجنبية، بينما تختفي مهنٌ وصناعاتٌ كانت تشكل جزءاً من هوية الوطن.

لماذا لا نجد مبادراتٍ جادّة لإنشاء مصانع صغيرة تدعم الاقتصاد المحلي؟ لماذا تُمنح القروض والتسهيلات لأصحاب مشاريع المطاعم، بينما يُترك الصناعيون ليواجهوا مصيرهم وحدهم؟ لماذا لا توجد حماية للمنتج الوطني في مواجهة طوفان المستورد؟ الأسئلة كثيرة، لكن الجواب واحد: غياب الرؤية الاقتصادية التي تؤمن بأن الأوطان تُبنى بالمصانع، لا بالمقاهي.

إن استمرار هذا النهج يجعل العراق أكثر هشاشة أمام أي أزمةٍ اقتصادية عالمية، ويجعل مستقبله مرهوناً بما يُستورد، لا بما يُنتج. إن لم تكن هناك إرادةٌ لإعادة بناء القطاع الصناعي، وإن لم يكن هناك دعمٌ حقيقي للمشاريع الإنتاجية، فسيظل العراق بلداً يأكل أكثر مما يصنع، ويبني مطاعم بدل أن يبني مصانع، حتى يأتي يومٌ يجد فيه نفسه بلا صناعة، بلا اقتصاد، وبلا سيادة حقيقية.ِ