في ظل ما تشهده المجتمعات العراقية من تصاعد في معدلات العنف والإدمان بين فئة الشباب، تبرز الحاجة الماسة إلى إعادة التفكير في الطريقة التي تُبنى بها مدننا، لا من منظور عمراني صرف، بل من زاوية إنسانية ونفسية واجتماعية عميقة. فالمساحات الحيوية المفتوحة مثل الحدائق العامة، مراكز الرياضة، البحيرات، والممرات الخضراء، ليست مجرد مظاهر تجميلية للمدينة، بل هي عناصر حيوية تمس صميم الاستقرار النفسي والاجتماعي للمجتمع.
من الطبيعي أن يشعر الشاب المحاصر بالإسمنت، المحروم من الهواء الطلق، والمفتقد لبيئة مريحة وآمنة، بالضيق والقلق والانفعال، ما قد يدفعه إلى البحث عن متنفس في مسارات خاطئة، كتعاطي المخدرات أو الانخراط في سلوكيات عدوانية. في المقابل، وفرت التجارب العالمية أدلة دامغة على أن المدن التي تمنح مواطنيها مساحات خضراء واسعة، ومرافق رياضية مجانية أو منخفضة الكلفة، تشهد نسبًا أقل من الجريمة والانحراف.
نموذج بحيرة الرزازة في كربلاء يقدم دليلاً مؤلمًا على الفرص التي أُهدرت. فقد كانت هذه البحيرة، ثاني أكبر بحيرات العراق، تمتد بمياهها العذبة الهادئة لتشكل فضاءً طبيعيًا مذهلًا، جذب الزوار والسياح لعقود، وخلق حراكا اقتصاديا واجتماعيا كبيرا في المنطقة. كان يمكن استثمار هذه البحيرة كمركز ترفيهي متكامل، يضم حدائق واسعة، مسارات للدراجات، أماكن لممارسة الرياضة، مسارح مفتوحة، ومقاهي ثقافية مطلة على الماء. كان يمكن أن تتحول إلى واجهة حضارية لمدينة كربلاء، توفر فرص عمل للشباب وتمنحهم متنفسًا من ضغوط الحياة اليومية.
لكن بدلاً من ذلك، تعرضت البحيرة على مدى سنوات طويلة لإهمال ممنهج. فتناقصت مياهها تدريجيا بفعل السياسات المائية غير المستدامة، وغابت عنها خطط الاستثمار الحقيقي.
جفاف البحيرة لم يكن فقط طبيعيًا، بل جفافًا في الرؤية والنية، وسرقة لمستقبل منطقة كاملة كان يمكن أن تصبح نبضًا نابضا بالحياة.
ومع اختفاء البحيرة، خفتت الحياة من حولها. ارتفعت نسب البطالة، وازدادت ظواهر الفراغ والضياع بين الشباب، الذين لم يجدوا بديلًا صحيًا أو ثقافيًا يشغل أوقاتهم. تحولت المساحات التي كان يمكن أن تكون منارات أمل، إلى مناطق مهجورة يطاردها الغبار، ويتسلل إليها الضيق والإحباط.
إن إعادة تأهيل بحيرة الرزازة، وتحويلها إلى مشروع وطني متكامل يخدم البيئة والمجتمع والاقتصاد، لا يجب أن يكون حلماً مؤجلاً، بل هو ضرورة ملحة، وخطوة استراتيجية في طريق مكافحة الظواهر الخطرة التي تنهش جسد المجتمع العراقي. المدن ليست جدرانًا فقط، بل أرواح ومساحات ووجوه وأشجار، وهي لا تُبنى بالأسمنت وحده، وانما بالوعي والرؤية والتخطيط طويل الأمد.
لقد حان الوقت لنفكر بطريقة مختلفة. أن نمنح شبابنا ما يستحقونه: بيئة تحترم إنسانيتهم، وتوفر لهم أسباب الصحة النفسية والجسدية. فالمجتمع، في النهاية، لا يبدأ من المؤسسات الأمنية ولا من قوانين العقوبات، بل من الحديقة، من البحيرة، من المقعد المظلل تحت شجرة، من لحظة صفاء تمنع لحظة انهيار.