للمرة الثالثة يتكرر السؤال: لماذا لم أحضر احتفالية الحزب في ذكرى ميلاده الحادية والتسعين؟
إجابتي كانت صادقة وحقيقية لكنها غير مكتملة. قلت لهم انني توهمتُ الموعد فتأخرت، فلم أرَ حينها من المناسب ان أذهب متأخراً أكثر من ساعة. وأقول إن الحقيقة غير مكتملة لأنني أرى أن الاحتفال بميلاد الحزب لا ينبغي أن يقتصر على اللقاء الجماهيري الواسع، مع كلمات طيبة وأغان جميلة نحبها وتطربنا ونحفظها عن ظهر قلب، إنما يجب أن ينطوي أيضا على أحاديث مع النفس، فيها مراجعة دقيقة وأجوبة على اسئلة عديدة منها:
ما السر في بقاء الحزب حيا فاعلا طيلة هذه الأعوام، ما جعله بالفعل عميدا للأحزاب السياسية العراقية المعتبرة وذات الشأن؟
ما السر في بقاء الحزب - رغم كل ما تعرض اليه من هجمات وأفعال دنيئة، وأعمال عنف قامت بها مختلف الأنظمة وبقسوة لا مثيل لها - صامداً بل وشامخاً؟
كيف يعاود الحزب النهوض، بعد كل كبوةٍ يتعرض لها، وأقوى مما كان؟ حتى قال عنه مظفر النوّاب: ربَّ جُرْحٍ بما قطّعوه تماسك صبرا وزاد التصاقا.
وسؤال آخر: كيف دخل الحزب في أعماق نسيج المجتمع العراقي، حتى ما عادت لأيٍّ منهما القدرة على الفكاك من الاخر؟
شاهدت بعيني، ولم أسمع من أحد، سيدةً كبيرةً في السن تشتم رجال الأمن، عندما جاءوا يبحثون عن شيوعيين من أبناء المنطقة، ولم يكن منهم أي أحد ابناً لها أو قريبا. حدث هذا أمام عيني في قضاء بعيد كنت موفدا إليه. لاحظت كيف أن زوجها كان واقفا ومنفعلاً أيضاً، لكنه لم يتفوه بمثل ما قالته زوجته الحاجة أم وردة. وحين انصرف رجال الأمن أدخل زوجته إلى البيت وبقي هو واقفا معنا أمام الدار. هذه حالة تكررت كثيرا ويعرفها كثير من الناس.
كل القصائد تتكلم عن موقف الأهل المساند لانتماء أبنائهم للحزب الشيوعي. وتلك حقيقة اجتماعية وليست صورة أدبية شاعرية. أتساءل وأنا احتفل بطريقتي الخاصة هذه: ما السر في ذلك؟ وجود الحزب في البيوت ووسط العائلات له مكانة خاصة تماما؛ لا يجوز المساس بها. عجيب.
وعلى ذكر القصائد، هل مرَّ حينٌ من الدهر لم يكن للحزب دور فاعل في المشهد الثقافي العراقي؟ متى؟ حتى في السجون والمعتقلات كان الشعر يصدح بالفكر وبالنضال وبالقضية. حتى ليبدو أحيانا أنهم مجانين، ويا محلى جنونهم هذا. هذه صوفية جميلة، لكنها منضبطة بالعقل والواقع.
اتذكّر أن أباً لأحد أصدقائي كان يمنعه من التواصل معنا ومع فلان وفلان. لكنني لن أنسى كيف أن هذا الأب نفسه أخفى فلاناً وفلاناً وغيرهم حين ضاقت بهم الأرض، ولم يكن لهم من مخبأٍ من مطارديهم، ففتح لهم بيته واختفوا فيه حتى قبيل صلاة الفجر، ومع الآذان تسللوا إلى الجامع ومن هناك انتشروا في مرابع الأرض. ليرحم الله العم أبا فاروق.
وأعود للشعر ولا أدري لماذا ابتعدت عنه قليلاً. أنجب الحزب شعراء كتبوا خيرة القصائد للوطن والحب والناس. رسموا الخطوط العريضة لمدارس أدبية وأسسوا حركات أدبية، ونشروا الثقافة في كل ثنايا المجتمع. هل ينسى أحد "طريق الشعب" أم "الثقافة الجديدة" أم "الفكر الجديد" التي حل محلها اليوم " الطريق الثقافي"؟ كان وما زال النشر في أيّ من أدبيات الحزب، مكافأته الفخر وحده وشرف الكتابة في هذه الصحافة، التي لا يمكن توصيفها غير أنها شبيهة بخبز التنور مع الشاي في جلسة العائلة وقت الغروب، في باحة الدار بين النخيل وقرب الشجر.
من يريد الاحتفال بذكرى ميلاد الحزب فليأتي معي: نعد الخلايا في كل ثنايا المجتمع. ونشمّ رائحة عرق المناضلين وهم يطبعون الصحافة، صحافة الحزب، ولا يبدو على وجوههم الضجر او التعب. نقرأ عطاءات مفكري ومثقفي الحزب، لنكتشف ان هناك عالماً عميقاً صعب المنال يتستر وراء النصوص: نشعر به، نتلمسه، لكننا نهابُهُ ونخشى الغوص فيه. إنه السهل الممتنع والصعب المبتسم المتفتح.
هل تدري عزيزي القارئ ان هناك حزبين لا حزبا واحدا؟ وهذا من الأسرار التي لم يقلها أحد. حزب كبير واسع يضم كل التنظيمات، وبرامجها وعقيدتها وسياساتها. وحزب آخر ملاصق له ينبع منه ويعود اليه، وهو الرفيق الحزبي الواحد. كيف يكون هذا؟ الرفيق الشيوعي الفرد هو الحزب كله، في أفكاره ومواقفه وسياساته وفي اخلاقه ومبادئه، يعرف كيف يُقيّم الأحداث ويتخذ المواقف والقرارات، حتى وان كان في ذاك المكان والزمان لوحده، وحتى لو انقطعت به السبل عن جسد الحزب؟ وهذا سبب خطير يضاف إلى أسباب بقاء الحزب خالدا في الفضاء وعلى الأرض، وبين أضلاع العراق والعراقيين.
هل أبالغ إذا قلت إن واحدا من أسرار خلود الحزب، هو حاجة العراق بلاداً وأناساً اليه كتشخيص ودواء وعلاج، وأن روح الحزب وغاياته وافكاره تسامت حتى غدت متشابكة مع حاجات الناس وتطلعاتهم.
اليوم هل كان علي الحضور إلى القاعة لأشارك في الاحتفال، أم أن احتفالي هكذا بما أنا عليه من دروشة، يعزيني ويغفر لي زلّتي بتأخري وعدم حضوري الاحتفال؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مع الاعتذار للكاتب عن التأخر غير المقصود في نشر المقال.