في زمنٍ تُدار فيه الحروب من غرفٍ مكيفة، بكبسة زرٍ واحدة يُمحق جيشٌ ويُبنى آخر، ما زال العقل العسكري العربي مصمماً على إقناعنا بأن "الرجولة" لا تُكتسب إلا بتكسير العظام. والكرامة الوطنية لا تُستعاد إلا إذا مات طالب الكلية العسكرية تحت الشمس، بسلاحٍ خشبي وركضٍ حتى الانهيار.
واليوم، توفي طالبان في إحدى الكليات العسكرية العراقية بسبب "الإجهاد الشديد"، وهو تعبير مهذب لحقيقة أن التدريب كان أشبه بتعذيب جماعي رسمي ومقبول، لأنه ببساطة "منهج تدريبي تقليدي". تم استدعاء الشمس لتكون أحد عناصر الفحص، وتم تجاهل العصر الحديث بالكامل.
كلنا يعرف أن الحرب الحديثة تُدار بطائرات بلا طيار، بذكاء اصطناعي، بحواسيب وخوارزميات، حتى الجيوش الكبرى أصبحت تُخفض من أعداد المشاة وتستثمر في العقول لا في العضلات. أما نحن، فنصمم جيوشنا على طريقة "القرن التاسع عشر المطور"، ونصرّ على فكرة أن الضابط لا بد أن يشرب العرق من الجزمات ويأكل التراب كي يتخرج.
أحد الضباط الكبار قال في تبريره ان “الانضباط لا يُبنى إلا بالقسوة”، وكأن الانضباط لم يُكتشف بعد في الدول التي ترسل أقماراً صناعية إلى المريخ، دون أن يُقتل فيها طالب كلية. لماذا لا يُسأل أحد عن القاتل؟ لأن القاتل هنا ليس شخصاً، بل عقلية كاملة تعيش في متحف التاريخ، وتظن أن النصر يُصنع بالزحف على البطون.
المضحك المبكي أن هؤلاء الطلاب ماتوا وهم يتدربون على "الدفاع عن الوطن"، في حين أن الوطن لا يحتاج الآن لمن يركض 10 كيلومترات تحت الشمس، بل يحتاج لمن يعرف كيف يعطّل طائرة مسيرة أو يخترق نظام اتصالات. الوطن بحاجة إلى عقل لا عضلة، إلى تخطيط لا تعذيب.
لكن لا حياة لمن تنادي، فالمنهج مقدس، والتدريب منقوش على الحجر منذ أيام الحكم العثماني، ومن يقترح التحديث يُتهم بالخيانة أو "قلة الرجولة".
باختصار: في أوطان تُدار فيها الحروب بكبسة زر، لا يزال طلابنا يموتون بكبسة صرخة: "اركض!" .