اخر الاخبار

نادرا ما تجد مناضلاً غزا الشيب رأسه، لا تدهشه العلاقة الملتبسة بين الشباب والعمل السياسي المباشر، خاصة وإن أغلب هؤلاء المناضلين، قضى زهرة شبابه فاعلاً في حراك مجتمعي يضم تحت جناحيه عوالم السياسة والاقتصاد وفضاءات الثقافة والإبداع، وتحفزه أناشيد الثورة التي كانت تُعزف في جميع القارات، وتتدفق في عروقه نفحات تضامن أعلته وعلى مدى عقود، سواعد شبيبة متعددة القوميات والألوان والمعتقدات. وتمتزج الدهشة حيناً بمشاعر الخيبة، وحيناً بالتساؤل عن أسباب ما جرى لوعي الشباب وللممارسة العملية التي يُفضي إليها هذا الوعي. وفيما كنت أجاهد نفسي كي لا تتلبسنى المشاعر الأولى، حملت تلك الهواجس والأسئلة لعدد من معارفي الشباب، محاوراً بحذر كي لا أُغرقهم بحنيني الثقيل للماضي.

وقادني حواري مع الشباب إلى الاعتراف بأن الفعل في الأيام الخوالي كان مقتصرا على شبيبة التيارات السياسية، التي رضيت بقيادتها، الأغلبية غير المنتمية، ووضعت فيها الأمل ببناء بلاد ترفل بالحرية ويسودها العدل. وحين شهد المجتمع تحولات دراماتيكية، بدأت من تغيّر بنيته الطبقية ولم تنته برميه في أتون حروب عبثية وقمع وإرهاب دمويين وتجويع وهزائم لخمسين عاماً، لم يعد الكثيرون يرون علاقة محسوسة بين العودة لشعارات تلك التيارات وبين الواقع المرير. وزاد المشكلة تعقيداً تفاعل تناقضات وخطايا الماضي مع التباطؤ في إرساء دعائم ممارسة، توائم بين النظرية وبين الاحتياجات العملية لجيل، ولّد فعلاً لا مجازاً في دخان المعارك ولا يعرف للرفاهية طعما. وقادت تلك المصائب، التي تزامنت مع نكوص قوى التنوير والتحديث، الأكثرية إلى الصمت والقبول بالأمر الواقع، والرضوخ للقوى والبنى التقليدية التي هيمنت على المجتمع، كالعسكرتارية والظلامية والعشائرية والطائفية، وأن تبحث عن ما يسد الرمق في قمامة الفئات الطفيلية وحماتها من بيروقراطييّ الاقتصاد الريعي. ولهذا كان طبيعياً أن يشمئز أغلب هؤلاء من تهافتهم ويجلدون ذاتهم، فيغرقون في لجة اليأس ويفقدون الثقة بالعمل المنّظم ويتشبثون بالفردية وبثقافة العولمة، التي سخّرت كل شيء، لتجهيلهم وتغييب وعيهم.

ثم ساهم البعض، ممن انتقل لضفة الخصوم، في نشر وتعميق هذه الأوهام لدى الأكثرية، بدعوى انتفاء صلاحية ومشروعية انتمائه السابق، فيما لعب عدد من الأوفياء لذلك الانتماء، دوراً سلبياً حين بقوا يجترون ذكريات وإنجازات الأمس ويدافعون عن طهرانيته ويهملون استقراء الواقع بما يفتح أفقاً سياسياً وتنموياً وثقافياً مختلفاً وقادراً، ليس على إنقاذ الشبيبة مما يثقلها من أوهام فحسب، بل وتعبئتها واعادتها لسوح الكفاح الوطني والطبقي.

إن تبديد اغتراب الشبيبة عن النشاط السياسي، يشترط تحليل انتكاسات الماضي بشكل عقلاني وشفاف، يتزامن مع مصالحة جذرية بين الأهداف المعلنة للبرامج وبين أشكال متجددة للممارسات النضالية وللدليل المعرفي ولعوالم البناء التنظيمي، والتمسك بحكمة تربوية تقول، زوّد الشباب بشيء من الأدوات ودعهم يجدون بأنفسهم حلولاً لمشاكلهم.

وإذا ما اقتضى الإنصاف، الوفاء للأقلية الباسلة، التي آثرت المضي في مسيرة النضال، مقتنعة بالقدرة على تحقيق التغيير عبر مراكمة الممارسات النضالية الكمية تمهيداً لإحداث تحول نوعي حقيقي في بنية الدولة والمجتمع، فإنه لابد من التأكيد على بقاء هذه الأقلية ملهمة للأكثرية السلبية، التي تغبطها سراً على اجتراحها للمأثرة، مهما أظهرت خشيتها من تأثيرها المحفّز وحاولت "تحصين" نفسها ضده. وهو أمر يتطلب بالضرورة لتحويل الساحة السياسية إلى حاضن حقيقي لمشروع التغيير الشبابي، يرتكز على تعزيز الديمقراطية وضمان المصداقية النظرية والعملية وتفعيل المحاسبة والنقد الذاتي، فبهذا وحده تبقى النوافذ مشرعة لهواء عذب يجذب كل الفراشات التائهة لدوحة الفعل الثوري.