تعيش العاصمة بغداد واحدة من أسوأ أزماتها البيئية والصحية على الإطلاق، بعدما صنّفتها منصة عالمية معنية كثاني بالبيئة، أكثر مدن العالم تلوثاً بهوائها، وفق مؤشر جودة بلغ نحو 150 نقطة، وهو ما يضع ملايين السكان أمام مخاطر صحية مباشرة، خصوصاً الأطفال وكبار السن ومرضى الجهاز التنفسي والقلب.
وبينما تتنوع الأسباب بين الانبعاثات الصناعية، عوادم ملايين السيارات، حرق النفايات، وغياب المساحات الخضراء، يتفق الخبراء والناشطون على أن غياب السياسات المستدامة وضعف الوعي المجتمعي يجعلان الأزمة مرشحة لمزيد من التفاقم ما لم تتحرك الدولة والمجتمع معاً نحو حلول جذرية.
وتقول منصة "IQAir" السويسرية، انه في الوقت الذي تزداد فيه التحذيرات العالمية من تداعيات التغير المناخي وتلوث البيئة، تعيش العاصمة بغداد واحدة من أسوأ أزماتها الصحية والبيئية على الإطلاق، بعد أن صنّفتها المنصة، ثاني أكثر مدن العالم تلوثاً بالهواء.
ووضع مؤشر جودة الهواء الذي تجاوز 150 نقطة، سكان بغداد، لا سيما الأطفال وكبار السن ومرضى الجهاز التنفسي والقلب، أمام خطر مباشر يهدد حياتهم اليومية.
وبينما تتعدد الأسباب بين الانبعاثات الصناعية والازدحام المروري وحرق النفايات وغياب المساحات الخضراء، تتفق آراء الخبراء والناشطين على أن غياب الوعي البيئي وضعف الخطط الحكومية الشاملة يجعلان الأزمة مرشحة لمزيد من التفاقم، ما لم تتكاتف الجهود الرسمية والشعبية لوضع حلول عملية ومستدامة." السويسرية المتخصصة بمراقبة جودة الهواء، أن العاصمة العراقية بغداد احتلت المرتبة الثانية عالميًا بين أكثر المدن تلوثًا بالهواء.
وبحسب بيانات حديثة صادرة عن المنصة، فإن مؤشر جودة الهواء (AQI) في بغداد بلغ نحو 150 نقطة، وهو ما يصنفه ضمن الفئة "غير الصحية"، خصوصا بالنسبة للأطفال وكبار السن ومرضى الجهاز التنفسي والقلب.
وأوضحت المنصة أن هذا التصنيف يستند أساسا إلى ارتفاع مستويات الجسيمات الدقيقة (PM2.5)، والتي تُعد من أخطر الملوثات نظرًا لقدرتها على التغلغل في أعماق الرئتين والوصول إلى مجرى الدم، مما يسبب مشكلات ومضاعفات صحية خطيرة.
غياب المساحات الخضراء!
وحذر عضو مرصد العراق الأخضر، عمر عبد اللطيف، من تفاقم أزمة تلوث الهواء في العاصمة بغداد، مؤكداً أن المشكلة ليست جديدة، بل تعود إلى التحولات العمرانية التي حولت المدينة إلى ما يُعرف بـ"المدن الجزيرية"، حيث تغيب المساحات الخضراء بشكل شبه تام مقابل التوسع في بناء المولات والمجمعات التجارية والسكنية.
وأوضح عبد اللطيف لـ"المدى"، أن "مؤشر جودة الهواء يشهد تراجعاً كبيراً لا يقتصر على بغداد فقط، بل تعاني منه أيضاً دول مثل مصر والبحرين والهند، إلا أن الوضع في العاصمة العراقية يزداد سوءاً بفعل عوامل عدة".
وبين، أن بغداد تضم أكثر من ثمانية آلاف مشروع صناعي، بينها مصانع طابوق، ومصانع أسفلت، ومصانع أدوية، وجميعها تطلق ملوثات ومواد كيميائية خطرة في الهواء.
وأضاف أن "وجود مصافي نفط داخل بغداد مثل مصفى الدورة، إلى جانب أكثر من مليونين ونصف المليون سيارة، فضلاً عن انتشار المولدات الأهلية وحرق النفايات، كلها أسباب مباشرة لتدهور نوعية الهواء".
وأشار عبد اللطيف إلى أن الحلول المطروحة حتى الآن محدودة، ولا تتعدى غلق بعض المشاريع المخالفة، مثل معامل الطابوق، "لكن ذلك لم يحقق نتائج ملموسة"، مضيفاً أن "رائحة الكبريت التي اجتاحت العاصمة منذ بداية شهر آب ما زالت ماثلة، ومن المتوقع أن تتجدد في الأيام المقبلة بفعل طبيعة التراكيب الجوية وحركة الرياح".
وأكد، أن رائحة الكبريت ناتجة عن انبعاثات مكونة من نحو 17 إلى 18 مركباً كيميائياً، تشبه في رائحتها علبة أو عود الكبريت، لكنها في الواقع مواد سامة تهدد صحة المواطنين.
وحذّر من تزايد حالات الاختناق والربو بين سكان بغداد حالياً، لافتاً إلى أنه "على المدى البعيد، وخلال السنوات السبع إلى العشر المقبلة، قد نشهد ارتفاعاً في معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية نتيجة استمرار التلوث".
المسؤولية جماعية
فيما قل الناشط البيئي عصام هشام أن أزمة تلوث الهواء في العاصمة بغداد لا يمكن تحميل مسؤوليتها لطرف واحد فقط، بل هي نتيجة تراكمية تستدعي تعاون جميع الجهات، سواء كانت الحكومة أو المجتمع المدني أو الأفراد.
وقال هشام لـ"طريق الشعب"، إنه من خلال متابعته المستمرة منذ أكثر من عام، ومشاركته في ورش عمل بالتعاون مع الحكومة ومنظمات دولية، توصل إلى أن "المشكلة لا يمكن إلقاء تبعاتها بالكامل على الحكومة أو على المواطنين، بل هي عملية تكاملية تتطلب تكاتف الجميع للخروج بنتائج ملموسة".
وأضاف انه "من واقع التجربة، نستطيع القول إن ما يقارب 60 في المائة من المشكلة يعود إلى سلوك الأفراد، بينما الحكومة أبدت استعداداً لاتخاذ خطوات حقيقية، لكن التحدي الأكبر يكمن في ضعف الوعي المجتمعي. فغالبية الناس لا تتقبل القرارات البيئية، ولا تقتنع أصلاً بخطورة قضايا المناخ والتلوث".
وأشار هشام إلى أن هذا يظهر بوضوح في منصات التواصل الاجتماعي، حيث يواجه أي منشور يتعلق بالبيئة موجة من التهكم والتقليل من شأن الموضوع.
وتناول الناشط مثالاً على ذلك بوجود المصافي والمصانع داخل بغداد، مبيناً أن مواقعها وُضعت في الأصل خارج النطاق العمراني، لكن التوسع السكاني غير المنضبط أدى إلى اقتراب الأحياء السكنية من هذه المنشآت. وأضاف: "إذا أرادت الحكومة اتخاذ إجراءات رادعة، فهي لا تستطيع نقل المصافي، بل ستضطر إلى التفكير في إزاحة المناطق السكنية التي أصبحت ملاصقة لها، وهو أمر شبه مستحيل عملياً، لأنه سيثير مشكلات اجتماعية كبيرة".
وشدد هشام على أن الحل لا يكمن في "القرارات الوهمية أو الشعارات"، بل في رفع الوعي الجمعي وتوحيد الجهود بين الحكومة والمجتمع والأفراد. واختتم بالقول: “إذا أردنا أن نطبّق اتفاقية باريس للمناخ ونصل إلى نتائج واقعية، فلا بد من أن نؤمن أولاً بحقيقة هذه الأزمة ونعمل معاً لإيجاد حلول عملية مشتركة".
تلوث السيارات!
من جهته، ذكر كشبين إدريس، رئيس منظمة هسار البيئية، إن السيارات تعد من أبرز مسببات تلوث الهواء في العراق، موضحاً أن الانبعاثات الغازية الصادرة عنها تسهم بشكل مباشر في ظاهرة الاحتباس الحراري وتؤدي إلى تغيرات مناخية خطيرة تهدد مستقبل الأجيال.
وقال إدريس في حديث لـ "طريق الشعب"، أن العديد من دول العالم بدأت بخطوات عملية للتحول إلى السيارات الكهربائية والمركبات الصديقة للبيئة كخيار استراتيجي للحد من التلوث، غير أن العراق ما زال متأخراً عن هذا التوجه العالمي. ووصف الوضع الحالي بأنه "كارثي"، مشيراً إلى أن غياب منظومة نقل عام متطورة دفع معظم العائلات العراقية إلى الاعتماد على السيارات الخاصة، ما زاد من ازدحام المدن وارتفاع نسب التلوث.
وأكد إدريس أن تحسين النقل العام يمثل الخطوة الأولى لمواجهة هذه الأزمة، يليه التفكير في إدخال السيارات الصديقة للبيئة. وشدد على أن أي حلول مستقبلية يجب أن تكون جزءاً من خطة وطنية متكاملة تشارك فيها الحكومة والقطاع الخاص والمنظمات المحلية، وتدعمها تشريعات واضحة وبرامج توعية تساعد المجتمع على تقبل التغيير والمساهمة فيه.
واختتم قائلاً: "لا يمكن أن نتحدث عن سيارات كهربائية في العراق قبل أن نؤسس لبنية تحتية للنقل العام، فهي المدخل الحقيقي لأي حل بيئي ناجع يخفف من أزمة التلوث ويحمي صحة الناس".