تثير قضية التعليم الأهلي في العراق جدلاً واسعاً، خصوصاً مع ازدياد عدد الكليات الأهلية وتراجع التقييمات الدولية لجودة التعليم. هذا الجدل لا ينفصل عن هواجس الطلبة وأولياء الأمور الذين يجدون أنفسهم اليوم أمام معادلة صعبة: مستقبل مضمون بكلفة مالية باهظة، أو شهادة حكومية بفرص عمل محدودة؟
أعباء مالية ثقيلة
يقول ليث عمار، وهو خريج دبلوم هندسي من الجامعة الألمانية، وطالب حالياً في إحدى الجامعات الأهلية، إن "الجميع يعرف أن قرارات وزارة التعليم في كثير من الأحيان تتسم بالتخبط، ولا تكون دائماً في مصلحة الكادر التدريسي أو الطلبة. أحياناً تكون القرارات على حساب التدريسي نفسه، ما يضاعف حالة عدم الاستقرار داخل الجامعات"، مضيفا "نحن كطلبة نتحمل فوق ذلك أعباء مالية كبيرة من أجل مواصلة دراستنا في الكليات الأهلية".
ويضيف عمار في تعليق لـ"طريق الشعب"، ان "الأجور الدراسية مرتفعة جداً. فالكليات الطبية الأهلية تتقاضى بين ١٠-١٤ مليون دينار سنوياً، بينما تتراوح رسوم التخصصات الأخرى بين ٦-٨ ملايين. هذه مبالغ لا تتناسب إطلاقاً مع القدرة المالية للطالب، ولا مع مستوى دخل معظم العوائل. فمتوسط الدخل الشهري لا يتجاوز 500 ألف دينار في كثير من الحالات، وهذا يعني أن العائلة تحتاج دخل سنة كاملة لتغطية قسط طالب واحد فقط، فكيف يمكنها تغطية أربع أو خمس سنوات من الدراسة؟".
ويتابع قائلاً ان "المشكلة ليست في ارتفاع الأجور فقط، بل في المستوى الأكاديمي أيضاً. هناك تفاوت واضح بين كلية وأخرى؛ بعض الكليات تستعين بكوادر جيدة، وأخرى تعاني ضعفاً في التدريس والبنية التحتية. هذا يجعل الطالب في قلق دائم: هل الشهادة التي سيدفع من أجلها هذه المبالغ الباهظة ستضمن له مستقبلاً؟ وهل ستفتح له أبواب العمل؟". ويشير عمار إلى الضغوط الاجتماعية قائلاً ان "هناك قناعة راسخة لدى الكثير من الأهالي أن الكليات الأهلية، وخصوصاً الطبية، هي الطريق لضمان مستقبل الأبناء. لذلك يضطر كثير من الآباء إلى الاستدانة أو بيع ممتلكاتهم لتوفير الأقساط. وهكذا يجد الطالب نفسه بين خيارين أحلاهما مر: إما تحمل ديون هائلة لمتابعة الدراسة الأهلية، أو الاكتفاء بالجامعات الحكومية المزدحمة التي لا تضمن مستقبلاً وظيفياً واضحاً".
الحكومي للفقراء والأهلي للأثرياء!
من جهتها، تجد الناشطة في مجال التعليم، هاجر حسين، أن التعليم الأهلي بات يمثل سيفاً ذا حدين، فهو من جهة يفتح أبواباً جديدة للطلبة الذين لم يسعفهم المعدل لدخول الجامعات الحكومية، لكنه من جهة أخرى يعمّق الفوارق الطبقية بين القادرين على دفع ملايين الدنانير سنوياً، وبين من لا يملكون سوى خيار الجامعات الحكومية المزدحمة والمحدودة المقاعد.
وتشير حسين إلى أن "الكثير من الطلبة باتوا يخشون ذكر أنهم خريجو كليات أهلية، نتيجة ضعف الثقة بالمخرجات التعليمية وعدم وضوح مستوى الجودة مقارنة بالكليات الحكومية"، مضيفة أن بعض العوائل ترهق نفسها مالياً، بدفع ما يصل إلى عشرة أو أربعة عشر مليون دينار سنوياً، من أجل ضمان مقعد في الكليات الأهلية، خصوصاً الطبية منها، كونها تمنح فرص تعيين شبه مضمونة.
وتردف حسين كلامها "لكن هذه الخيارات لا تأتي دون أثمان. فالتوسع الكبير في إنشاء الكليات الأهلية، خصوصاً الطبية، لم يرافقه رقابة كافية على مستوى التعليم أو الكادر التدريسي. والنتيجة تفاوت واضح في مستويات التعليم بين كلية وأخرى، إلى جانب فرض رسوم إضافية تثقل كاهل الطلبة".
وترى أن "هذه الفوضى خلقت أزمة ثقة لدى الطلبة، الذين يجدون أنفسهم في مواجهة أسئلة مصيرية: أي كلية أختار؟ هل تستحق كلفة الدراسة؟ هل شهادتي ستكون مقبولة في سوق العمل؟".
وفي الوقت نفسه، تعاني الجامعات الحكومية من محدودية التوسع في استحداث كليات جديدة، خاصة في التخصصات الطبية، الأمر الذي يدفع عدداً كبيراً من الطلبة للاتجاه إلى الكليات الأهلية، رغم التحفظات والانتقادات التي تلاحقها.
وتختتم حسين كلامها بالتأكيد على ان "حل الأزمة لا يكون بإغلاق الباب أمام التعليم الأهلي، بل بتنظيمه وتشديد الرقابة عليه، ومنع تحوله إلى مشروع ربحي بحت. المطلوب هو ضمان جودة التعليم ومخرجات حقيقية تخدم المجتمع والدولة، وإلا فإننا سنبقى ندور في حلقة من المعاناة، حيث تتحمل العوائل أعباء مالية ضخمة دون مردود تعليمي حقيقي".
إشكاليات جوهرية
ويؤشر الأكاديمي د. منتظر ناصر، "اشكالا جوهريا" في واقع التعليم الأهلي في العراق، "يتعلق بارتفاع الأجور الدراسية وضعف المعايير الأكاديمية والرقابية". ويقول ناصر لـ"طريق الشعب"، إن "بعض الكليات الأهلية تتقاضى أجوراً مبالغ بها، مما يضع ضغطاً هائلاً على العوائل، خصوصاً من ذوي الدخل المحدود، ما يجعل التعليم الأهلي خياراً طبقياً بامتياز".
ويضيف أن "المشكلة لا تتعلق فقط بالكلفة المالية، بل بغياب مستوى موحد للجودة، حيث نجد تفاوتاً كبيراً في الأداء بين كلية وأخرى، الأمر الذي يثير قلق الطلبة بشأن قيمة شهاداتهم في سوق العمل". وشدد على أن "التوسع العشوائي في فتح الكليات الأهلية، ولا سيما الطبية منها، خلق بيئة يغلب عليها الطابع الربحي على حساب المصلحة الأكاديمية، فيما تظل فرص التعيين مرتبطة إلى حد كبير بالمخرجات الحكومية".
وخلص ناصر الى القول ان "الحل لا يكمن في إيقاف التعليم الأهلي، بل في إعادة تنظيمه وتشديد الرقابة على المناهج والكادر والأسعار، بحيث يتحول إلى رافد حقيقي للتعليم في العراق، لا إلى عبء إضافي يفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية".
هذا واقع تعليم الجامعات الأهلية
يقول مؤيد أحمد، طالب مرحلة رابعة في إحدى الجامعات الأهلية، إن "الجامعات الأهلية عبارة عن مظاهر ومنافسات للحصول على درجات عالية من دون بذل أي جهد في كسب المعرفة العلمية"، مشيرا الى ان "بعض طلاب الدراسة المسائية هم من موظفي الدولة وضباط يملكون نفوذاً يفرضونه على أساتذة الجامعة لمساعدتهم في غض النظر عن غيابهم الطويل والمتكرر، وعن عدم حضور الامتحانات من دون أن يمنع ذلك حصولهم على علامات جيدة بلا أي جهد أو عناء".
ويرى الأكاديمي المستقيل كاظم المقدادي، أن "الجامعات الأهلية في العراق شبه تجارية، وأنا لا أعارض أن يوظف مستثمرون أموالهم في هذه المشاريع، لكنني أختلف تماماً عندما يتدخلون في الكوادر والبيئة العلمية، وعمل الأساتذة واجتماعاتهم، وأيضاً في سلوك الطلاب وغيابهم".
ويقول ان "بعض المستثمرين يكون همهم الوحيد هو عدم تأخر دفع الطلاب الأقساط المالية للجامعة. وأنا أرى أنه من غير اللائق أن يملك مستثمرون مكاتب خاصة داخل الجامعات".
ويصف المقدادي الجامعة الأهلية بأنها "خاصة" لأنها تجمع أولاد المستثمرين والأصدقاء والأقارب!