1 .. لمحة تاريخيّة
في نهاية الستينيات، وبعد َ أن تشكّلت لي بدايات في كتابة الشعر الشعبي، انتميت إلى جمعية الشعراء الشعبيين في ميسان. كانت الهيأة الإدارية للجمعية تضم ُّ شعراء مثقفين تفاعلوا مع موجة التجديد النوابيّة الرائدة، عبد السادة العلي – رئيسا، صبيح ناجي القصّاب – نائبا ً للرئيس، عبد الكريم القصّاب– سكرتيرا ً ، كاظم لاله - أمينا ً للصندوق ، جبار عبد الله الجويبراوي – عضوا ً. وقد سبق هذه الهيأة هيأة برئاسة سعدون المفرجي.
كانت الهيأة العامة تضم ُّ شعراء من بينهم : خليل الزبيدي، جاسم محمد الشوّاي، خنجر الشامي، كريم القزويني، كاظم المنشد، عبد الحسين مجيد السمّار، عبد الرضا غالي، غالب الزبيدي، عادل فيلي، عبد الزهرة الساعدي، وآخرين لاتستطيع الذاكرة الآن أن تمد َّ خيوطها إليهم. كما أن َّ شعراء، إن لم يكونوا أعضاءً في الجمعية، فهم على مقربةٍ منها: غازي ثجيل، عبد الإله منشد، علي سهيل الزبير، حامد الياسري، سلام داغر الرشيد، كريم مانع الحسن، علي عيدان عبد الله في بداياته، شاكر البدري، خالد البارودي، نجمة الفرطوسي ، وغيرهم، إذ أن َّ في ميسان حشدا ً كبيرا ً ممن يكتب الشعر الشعبي بالشكل القديم.
كانت الجمعية تُقيم جلسة شعرية مسائية إسبوعية، يقرأ فيها مَن يشاء ممن يحضر الجلسة من الشعراء. وصادف أن حضر الشاعر أبو سرحان واحدة من الجلسات وقرأ فيها . كما زار الجمعية الأستاذ عبد المنعم الجادر – رئيس تحرير جريدة (كل شيء) التي كانت تنشر الشعر الشعبي، وكذلك الشاعر عزيز السماوي الذي اكتفي بلقاء الشاعر عبد الكريم القصاب في الحديقة، ومرافقة الشاعر عبد السادة العلي في نزهة ٍ في المدينة . وما كان اللقاءآن يخلوان من الحديث عن الشعر الشعبي الحديث.
في بداية السبعينيات حُلّت الجمعية، لعدم انسجام هيأتها الإدارية فنيا ً مع الجمعية - المركز في بغداد بسبب موقف الأخيرة من الشعر الشعبي الحديث. وخلال هذه البداية كان حضور الشاعر كاظم غيلان في المشهد بوضوح، وتبعه ُ شعراء آخرون: رياض جمعة النصيري، وچاسب بدر ، وغيرهما .
اختار شعراء الهيأة الإدارية المنحلّة ، مقهى نعيم – مقابل مكتبة وتسجيلات غالب الزبيدي في الشارع الذي يربط بينشارع المعارف وشارع بغداد، لتكون مكاناً ال للقاءآتهم.
وأهم ما حصل في بداية السبعينيات، إقامة مهرجان الشعر الشعبي الثالث عام 1971 - الذي شارك فيه شعراء من معظم المحافظات - بإدارة وإشراف لجنة تحضيرية مثّلها شعراء الهيأة الإدارية المنحلّة؛ وقد أُفتتح المهرجان بقصيدة للشاعر صبيح القصاب في الجلسة الشعرية المسائية الأولى، رغم أن الدور للشاعر عبد السادة العلي الذي كان موقوفاً يوم الافتتاح، وقد أطلقَ سراحه في اليوم الثاني نتيجة احتجاج الشعراء المشاركين ، وأفتتح الجلسة الشعرية المسائية الثانية. كما قرأ الشعراء: عبد الكريم القصاب، كاظم لاله، جبار عبد الله الجويبراوي، كريم القزويني، خنجر الشامي، عبد الحسين مجيد السمّار، خالد البارودي، وكاتب هذا المقال، في الجلسات المسائية المتعاقبة. كما أُقيمت ولأوّل مرّة جلسات نقدية صباحية. وقد حقق المهرجان نجاحا ً فنيّا ً وإداريا ً ما زال عالقا ً في ذاكرة جمهور الشعر الشعبي .
وبعد المهرجان بعام زار الشاعر شاكر السماوي مدينة العمارة، وكانت الزيارة مهرجانا ً شعريا ً مُصغّرا ً، وقد حظي َ الشاعر بالحفاوة والضيافة في منزل الشاعر عبد السادة العلي، وكذلك في منزل السيد حمزة الزبيدي شقيق غالب الزبيدي، إضافة إلى اللقاءآت في مقهى نعيم.
إن َّ تلك الزيارة شهدت تمحّورا ًفنيّا ً للشعراء الذين تبنّوا الخط التجديدي من بين شعراء المدينة، وواصلوا الكتابة بهذا الخط، معمّقين معارفهم الشعرية بالقراءآت النقدية الأدبية ومتابعة التحوّلات الجديدة والحديثة في المشهد الشعري .
2 .. الفاعلية الشعرية
في السبعينيات ، وبعد المهرجان الثالث الذي رجحت فيه كفّة الشعر الحديث، ونتيجة ( للانفتاح السياسي المحدود ) في حينه، تمكّن الشعراء: عبد السادة العلي، صبيح ناجي القصاب، كاظم لاله، عبد الكريم القصاب، جبار عبد الله الجويبراوي، كاظم غيلان، خنجر الشامي، كريم القزويني، كاتب المقال، من تحقيق الحضور الأعلى على مستوى المشاركة في مهرجانات الشعر الشعبي والنشر في الصحف والبرامج الإذاعية المختصّة بالشعر الشعبي.
كما أصدر الشاعر عبد السادة العلي مجموعته الأولى (سواجي وعطش) عام 1974، وفي هذا العام أيضاً، صدرت مجموعة (قصائد للوطن والناس) لمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي المجيد وقد ضمّت قصائد ل: عبد السادة العلي، كاظم غيلان ، كريم القزويني، وكاتب المقال. وصدرت كذلك نشرة محلية بالرونيو– بدعم من نقابة عمال ميسان- تهتم بالشعر الشعبي والفنون من اعداد الشاعرين: صبيح ناجي القصاب وكاظم غيلان، وقد حققت انتشارا ً واضحا ً، إلّا أنها أوقفت بعد صدور أعداد منها لأسباب لا ترتبط بالأدب والفن .
وعلى المستوى الإبداعي ، وبالقياس الفني المعياري والتواصل، خفتت تجربة خنجر الشامي و كريم القزويني، وتشاغل جبار عبد الله الجويبراوي بالكتابة التراثية والميثولوجيا وتاريخ ميسان، رغم أهمية ما كتب من شعر شعبي. وهكذا، أُختزل استمرار مشهد الشعر الشعبي الحديث السبعيني في ميسان بالشعراء: عبد السادة العلي، صبيح القصاب، كاظم لاله، عبد الكريم القّصاب، كاظم غيلان، وربّما كاتب المقال.
توارى هؤلاء الشعراء الستّة منذ ُ نهاية السبعينيات عن الحضور الإعلامي لأسباب تتعلّق بالقناعات الفكرية، وأُبعد َ الثالث إلى إيران مرّتين ظلماً، كما سُجن َ الإثنان الأخيران منهم. إلّا أن َّ هؤلاء الشعراء ادّخروا ما يكتبون. وبعد عام 2003، انفتحوا على النشر في الصحافة وحضور اللقاءآت التلفزيونية وإصدار المجاميع الشعرية. إذ أصدر الشاعر عبد السادة العلي: سواجي وعطش – طبعة ثانية، مفاتيح الشمس، كَضبة ريح، من فنون الأدب الشعبي، الأعمال الشعرية. وأصدر الشاعر صبيح ناجي القصاب، احچايات الصدكَ، وقد عاجله ُ الرحيل قبل أن يُكمل إصداراته. وأصدر الشاعر كاظم لاله: قصيدة للحرب مرثية للسلام، ريح وخشب تابوت – وقد صدرت في المنفى الإضطراري. وأصدر الشاعر عبد الكريم القصّاب مجاميع عدّة منها: مذكرات أيوب العراقي بطبعتين، موسيقى الوجع، نبي الحرير، ألوان من الشعر الشعبي، أغاني العاشقين، جرف الغزال، شواطي الروح، هلاهل للشمس، كلبدون الدمع، خريف. وأصدر الشاعر كاظم غيلان: عرس الماي، لون الليالي صعب ، مظفر النواب – الظاهرة الاستثنائية.كما صدر لكاتب المقال: أشجار الحلم والماي، غنج، امرايات الحزن والروح والغيبة، غنائيات وردة جمر، تطريز، وكُتب دراسات عن الشعراء الراحلين: الحاج زاير– رنين الوتر الفراتي، مظفر النواب– بستان الرازقي، شاكر السماوي– تقاسيم العشكَ والجرح، أبو سرحان– كرستال القصيدة الشعبية، كاظم الركابي- مناجل أور الفضيّة.
في الشكل الشعري، تأخذ قصائد الشعراء: عبد السادة العلي، كاظم لاله ، كاظم غيلان، كاتب المقال، شكل الشعر الحديث على الأعم . أما الشاعر عبد الكريم القصّاب، فبالإضافة إلى شكل الشعر الحديث، إلّا أنّه ُ كثيراً ما يعود إلى الشكل الأوّل الذي يُطغي كميّا ً على الشكل الحديث – وهذا يرتبط بقوّة البدايات مع ذلك الشكل. وفي العناصر الفنية الأخرى، فللشعراء قدرات واضحة فنيّا ًوكل ّ حسب تجربته وتكوينه الثقافي وانحيازاته الجمالية وصولاً إلى الخصوصية التي تمنح الفرادة الشعرية.
ميسان غابة القصب الشعرية، ولعلنا في هذه المحاولة مسكنا أعالي القصب. وعلى أمل ٍ أن تكون هذه الإشارات مقدمة لكتاب قادم ٍ يضم ُّ مختارات من شعرشعراء السبعينيّات، شعراء التجربة التجديديّة في ميسان ...