اخر الاخبار

سنبتعد عن الحزن قليلا ونحن في حضرة “صياد الهموم”، في فضاء من أنصهرت أحزاننا وأحلامنا في لذائذ شعره، ووعيه وتفكيره، بل وفي دموعه النازفة، وطن فوضوي القضية وغموض المعنى المستقبلي. كلما نتلوه، نجده آيات لا يدركها إلا صباح يشرق فيه فجر روحه في ملاذات دروب الصحافة والأعلام، والمعاناة والوجع المداف شعرا بهموم أمة بأكملها. وكل ما نريد ان ننساه، يذكرنا به الوجه المتعب تحت جدارية فائق حسن، أو في ايقونات أحزان الطريق الى«مدن الفقراء«، باحثا عن مفردات تصنع الفرح لكائنات تعيش سرها المكتوم من زمان. هو النبيل، السومري، في توالي الليل حين يهتف صوته، ويوقظ بنا شجن وصيحات مفرداته السومرية وعيا شعبيا. قلائل يدركون حكاياه التي تمتد الى تخوم سمرة الجنوب، متشحة بالوشم المهضوم على بقايا إيام تقطر فقدا وذكرى.على بكائيات “ناي” يفصّل القصيدة قطعة تلو الأخرى، وما تراكم وتناثر من سطور بلغة سديمية المعنى.هو الواضح كناقوس في محراب متعبد خلف جدار، بعيدا عن الـ “هؤلاء”. كالوضوء لناسك ثمل أهله وراح في تيه وعري صحراء الصدى.

هو قريبا من جدارية “فائق حسن” حيث الكادحين والفقراء، تردد تراتيله المقدسة لهم شعرا،يحوك الحلم ليقيهم فجر المكائد في مزادات الموت المجاني الذي لا يلاحق غيرهم، لا لشيء إلا لأنهم سلام الصبح، ووحدهم العراة إلا من هوية الانتماء صدقا لوطن عجز حتى من ان يحمي عريهم. وتمر السنين ويسقط نظام الضحالة والوساخة، النظام العفن الذي قتل الشعراء والفنانين والعمال والطلبة والنساء والرجال العرب والكرد الشيعة والسنة، نظام العائلة، بل نظام الخلية السرية التي اضاعت من العراق فرص التقدم والتطور طوال 35 عاما. بعد سقوط هذا النظام جمعنا العمل مع الشاعر الكبير عريان السيد خلف تحت مظلة الحزب الكبير، الحزب العريق، الحزب الشريف، الحزب الشيوعي العراقي وفي صحيفته المركزية طريق الشعب، اتاحت لنا هذة الفرصة اللقاء اليومي بابا خلدون واجتمعنا في غرفة واحدة في الجريدة، طوال سنوات عديدة. وكالمعتاد في كل يوم بعد ان ينتهي الدوام في جريدة الشعب وطريقه القويم نخرج غالبا نحن الثلاثة وكثيرا ما كان ابو خلدون يقلنا بسيارته ولا غرابة في ذلك، لكن الغريب اننا كنا نرى مواطنين في الشارع وفي الاماكن التي نمر بها تبتهج لرؤية عريان السيد خلف اناس تحب ان تلقي عليه التحية واخرون يحبذون اخذ صور تذكارية معه مدنيين وعسكريين في اغلب السيطرات ورجال مرور وعمال وطلبة. قلنا لابي خلدون ذات مرة ما هذه المحبة يا سيدنا؟ ابتسم وقال: هاي المحبة من الله لانه يعلم ان قلوبنا وايدينا نظيفة. ثم ردد (اذا مر بدرب تتزاحم الناس عليه ويتعب الياخذ تصاوير)، فابتسمنا ايضا وقلنا يا سيدنا كأنك عندما تسير في شوارع ومدن بغداد تحمل راية حمراء (ام المنجل والجاكوج)، نرى محبة الناس لك محبة للحزب لانها تعرف انك ابن الحزب الذي تغنت به قصائدك وحفظها الناس عن ظهر قلب. لقد خطف الموت شاعرا  له على كل لسان قصيدة او اغنية، لقد رحلت عنا جسدا يا ابا خلدون ولكنك نجمة مضيئة في سماء الحزب والشعب.

سلاما.. أنت البريء، المتشابه مع بعضك، طين حري، نخلة برحي، عميقة الجذر والنسب.

اليوم صارت المسافة اليك موحشة، وقد كانت باذخة الجمال، شهية الحوار،في وجداننا وذاكرتنا.

اليوم صارت المسافة خيطا ونهرا من الدموع حيث وادي السلام قيامة وخلود في قلب شعب برمته.