بين أزقة بغداد القديمة تصدح قريحة شعرية في بيوتات لا تزال تعتق القصائد القديمة بدموع سومرية عشقاً لهذه الأرض، فلا تزال تلك الأزقة تحمل وجعاً قديماً يأن لفراق أحبائه حيث يجلس رجال خطت الخيوط البيضاء جباههم، وهم يستذكرون أحد أعمدة الشعر العراقي وقامة من قاماته الثقافية والسياسية والاجتماعية، إنه الشاعر الكبير مظفر النواب.
بين هذه البيوت تعرفت لأول مرة على شِعرك بعد أن صدح صوت ياس خضر بأغانيك فلم يكن ريل حمد إلا أحد الأساطير الجنوبية المذهلة صاغتها أناملك في لحظة وجع عراقي تتوق روحه لرفض كل ما يخالف القيم الإنسانية في زحمة عادات وتقاليد بالية تمنع الحب الصادق وتحوله الى مجرد صورة نمطية ترتبط بالتقاليد، كانت تلك القصيدة ثورة على الأعراف التي تخمرت في ذهنية المجتمع لقرون من الزمن (يا ريل طلعوا دغش والعشك جذابي دك بي طول العمر ما يطفى عطابي اتوالف ويه الدهر وترابك ترابي)، وفي الزقاق أيضاً سمعت قصائد أخرى مثل (زرازير البراري) “عيونك زرازير البراري بكل فرحها وبكل نشاط جناحها بعالي السحر والروح مني عوسجة بر ما وصل ليها الندى ولا جاسها بكطرة المطر، وقصيدة (روحي) و”لا تكلها شبيج وأنت الماي مكطوعة مثل خيط السمج”، لتأتي قصيدتك العظيمة (البنفسج) وتحول ولع الطفولة الى حكاية عشق لكل جملة شعرية قرأتها “ياعذر عذرين يا شنهي وأحبك ..يا حلم مامش بمامش طبع كلبي من طباعك ذهب”، كانت مفرداتك تنتزع من ذهني صخب الطرقات المشبعة بوجوه أثقلها تعب السنين، وهي تفتش عن لقمة عيش عصية. اليوم أرى الزقاق صامتاً لم يعد يعزف أناشيدك الخالدة، وحتى ذلك الشيخ الكبير فقد ذاكرته ولم يعد يتذكر شيئاً وكأن قصائدك هي من تمنحه ذاكرة الوطن، اليوم أرى شريط الزمن يسير ببطء ويقف أمام كل ركن من أركان الوطن ليجد فيه بقايا ذكرى لشموخك الخالد، رحلت أنت وبقيت قصائدك عامرة في الضمير، وصوتك يصدح في أفق الوطن عالياً لأنك العراق.