ولاية الخرطوم بمدنها الثلاث كان يسكنها 10ملايين مواطن قبل الحرب. وهذا يعني اقتصادا قادرا علي توفير فرص عمل لهذا الكم الهائل من البشر، بعد ان اصبحت القطب الحاذب للسكان، إثر انهيار القطاع المطري التقليدي وفقدان الموطنين حرفهم التقليدية، ولم يعد امامهم غير النزوح الى اطراف المدينة الضخمة التي احتكرت ـ الى جانب فرص العمل الهامشية ـ خدمات الصحة والتعليم. فنشأت تبعا لذلك العشوائيات التي خططتها السلطات المحلية لتصبح مدنا كبيرة، مثّلت ضعفيْ مساحة وسكان الخرطوم القديمة.

توقف هذا الاقتصاد عن الدوران فجأة، وأصبح من يعتمدون عليه في عداد النازحين أو ينتظرون المساعدات الدولية.

تم نهب المدخرات والبنوك، واعتمد النشاط المصرفي على التحويلات الخارجية. كما انهارت البنيات التحتية للصناعة، ونهبت اصول وممتلكات شركات الأدوية والمواد الغذائية. وهي تخص الرأسمالية المنحدرة من الوسط والشمال، وظلت تحتكر الاقتصاد والسلطة السياسية منذ استقلال السودان.

توقف شركات النقل

كما ان نشاط الشفتة وسيطرة قوات الدعم السريع على الطرق الرئيسة والفرعية وحتى تلك التي عبّدتها الدواب، أعاق انسياب السلع الزراعية القادمة من الشمال. فتوقفت شركات النقل الكبرى.

لكن هذا الواقع لم يمنع انسياب السلع الى اسواق غرب السودان، والتي اصبحت تأتي من دول غرب افريقيا ووسطها، عبر احد اكبر اسواق الحرب الذي يربط بين ولايات غرب كردفان وشرق دارفور ودولة جنوب السودان وهو سوق النعام، ما يشير الى بروز رأسمالية جديدة.

تقنين التجارة

لكن تلك الرأسمالية لم يفرزها واقع الحرب، وإن كان قد لعب دورا في دعمها وتجذيرها. فقد كانت من قبل تمارس التجارة بين ولايات السودان الطرفية وبلدان إفريقيا المشار اليها عبر التهريب؛ فالسودان معروف انه يحتكر تجارة الصمغ العربي في السوق العالمي، وان شجرة الهشاب المنتجة لهذه المادة لا تنمو إلا في صحاريه، ولكنه في الآونة الأخيرة اصبح يواجه منافسة من قبل دولتي تشاد وأريتريا، اللتين تبيعان نفس صمغ السودان الذي يأتيهما عبر التهريب. وقد استفادت الرأسمالية الجديدة من دعم الدولة لبعض السلع الغذائية مثل السكر والدقيق والمواد البترولية واصبح نشاطها واضحا حتى اضطرت الدولة لتقنين التجارة البينية.

ورغم خطورة الطرق إلا ان الصادرات السودانية من إقليم غرب السودان تصل إلى ميناء بورتسودان عبر ولايات وسطية تنتشر فيها قوات الدعم السريع وعصابات الفزع المحسوبة عليها.

ارتفاع الاسعار

والنشاط التجاري الذي تأثر بواقع الحرب هو القادم فقط من شمال السودان خاصة التمور بأنواعها والتي تخضع لإتاوات عالية جدا تسببت في رفع سعر الجوال من 35 الف جنيه في الشهور الأولى للحرب إلى 110 ألف جنيه اليوم.

حدث تغيير شامل في كل أوجه النشاط الاقتصادي، ولم تبق من معالمه القديمة غير العملة، التي فقدت معالمها لكثرة التداول، وعدم طباعة فئات نقدية جديدة بسبب توقف الصناعة عموما في الخرطوم خلال عام كامل.

اذا نحن لسنا امام حرب يشنها رعاة الابل من اقليم دارفور على مركز السلطة، ولكنها حرب تقف خلفها طبقة اقتصادية. وقد اشتد ساعدها وأصبحت لها أنياب وأظافر، وصارت تدرك اهمية السلطة بالنسبة للنشاط الاقتصادي، ما يرجح ان ملف الترتيبات الأمنية لن يكون وحيدا في مفاوضات منبر جدة القادمة، بل سيرافقه الملف الاقتصادي، وستكون مفاوضات اكثر تعقيدا من مفاوضات نيفاشا مع جنوب السودان، التي كان اقتسام الثروة فيها مقتصرا على النفط. بينما الان متعلق بالمشاركة في قيادة النشاط الاقتصادي الذي كانت تنفرد به الرأسمالية التجارية من الوسط والشمال، ما يتطلب التفكير خارج الصندوق.

عرض مقالات: