تعد المقاهي أبرز الأماكن احتضانا للأنشطة الاجتماعية والسياسية والثقافية، ولازال بعضها خالدا في ذاكرة الحليين رغم زوالها.

ومن أبرزها مقهى أبو سراج لما تمتع به موقعها بين شاطئ النهر الساحر وكورنيشيه والشارع العام الصاخب بالنشاط الحياتي والسوق التجاري الكبير وشارع المكتبات، وما يحيطها من محلات تجارية وخدمية، إضافة لجمالية بنائها جعل منها مكان إعجاب واستقطاب من أبناء المدينة لمختلف الفئات الاجتماعية والثقافية خاصة، وصارت تمثل صورة للمجتمع الحلي المدني المتحضر.

 المقهى وثورة ١٤تموز ١٩٥٨ الخالدة

  بعد انتصار ثورة تموز وما رافقها من تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية تحررية ثورية ونشاط سياسي جماهيري ديمقراطي، وانهيار جبهة الاتحاد الوطني ١٩٥٧والخلاف بين القيادة والقواعد الشعبية، احتضنت مقهى أبو سراج القوى اليسارية من الشيوعيين والديمقراطيين ونشاطهم السياسي والثقافي الملتفة حول الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم.  وأنارت المقهى الصحف التقدمية (جريدة اتحاد الشعب والثقافة الجديدة والبلاد والأهالي والرأي العام) وغيرها.

وفي الجهة الثانية احتضنت مقهى سيد شاكر نشاط القوى القومية من بعثيين وناصريين وحلفائها من الرجعية من أيتام العهد الملكي المعادية للثورة ومسيرتها. ومن ذلك التأريخ صار المقهيان يمثلان مكانا رمزيا لكل من التيارين اليساري والقومي إضافة لوجود مقاه أخرى.

 المقهى و ردة عبد الكريم قاسم

 ونتيجة لسياسة عبد الكريم قاسم الفردية الدكتاتورية العسكرية ضد حلفاء الثورة ومسيرتها وشنه حملة مطاردة واعتقالات على الشيوعيين وأنصارهم، بعد المسيرة المليونية في أول من آيار ١٩٥٩ عيد العمال العالمي.  وكان هدف قاسم هو تحجيم دور الحزب الشيوعي سياسيا وجماهيريا.

وقامت أجهزة السلطة بمساعدة عناصر من القوى القومية والرجعية المعادية للشيوعيين وأنصارهم بحملة دهم للمقهى واعتقال العناصر اليسارية.

ونتيجة لتلك السياسة عاد الحزب للعمل السري وأصدر صحفا بديلة عن اتحاد الشعب التي أغلقت، ومنها صوت الشعب وصوت الأحرار والإنسانية و١٤تموز وغيرها.

ورغم تلك الحملة لم يثن المناضلين الشيوعيين وأنصارهم من ارتياد المقهى.

  منع دخول وجلوس العسكريين في المقهى

 ونظراً لرفض صاحب المقهى وغيره التعاون مع تلك الاجهزة بمراقبة الشيوعيين ونشاطهم عمدت إلى وضع إعلان على واجهة المقهى (يمنع دخول وجلوس العسكريين في المقهى). وبهذا الإجراء القمعي واللا أخلاقي اكتسبت المقهى سمعة شعبية بوصفها مقهى الشيوعيين، (كما يذكر الاستاذ حليم شعيله).

واستمرت المقهى باحتضان نشاط الشيوعيين الديمقراطي، حيث صارت مركزا إعلاميا للقائمة المهنية التعليمية في انتخابات المعلمين ١٩٦١ وقد قامت أجهزة السلطة وأعوانها من العناصر الإجرامية للقائمة القومية بالاعتداء على ممثلي القائمة المهنية ومنهم عدنان طاهر وحسين صالح وغيرهم وبتوجيه من المحافظ. كما يذكر الأستاذان الراحلان عبد الأمير الشلاه وطالب كمر ومعن جواد في مذكراته. وشهدت نشاطات أخرى تناولت سياسة قيادة الحزب في تلك المرحلة ومنها إيقاف حملات الاعتقال وإطلاق سراح المعتقلين وإيقاف الحرب على الشعب الكردي تحت شعار (الديمقراطية للشعب العراقي وتقرير المصير للأكراد). ورغم تحذيرات الحزب لقاسم ونهجه ومخاطرها إلا أن قاسم استمر بذلك حتى من المقربين إليه من الضباط الأحرار، مما زاد من تآمر القوى القومية الرجعية للإطاحة بالثورة ومكاسبها وقادتها جماهيرها رافعين شعار (يا أعداء الشيوعية اتحدوا). وهكذا تحقق للمتآمرين تحقيق هدفهم بالإطاحة بالثورة وقادتها بانقلاب ٨ شباط الدموي ١٩٦٣.

وقبل أن اتحدث عن أحداث انقلاب شباط ١٩٦٣ الدموي نستذكر أولئك المناضلين الذين أرسوا ذلك الصرح في المقهى وأناروها بالفكر الماركسي اللينيني وجعلوها فنارا يقصدها الكثير من المثقفين والوطنيين الأحرار في تلك الفترة فبالإضافة إلى ما ذكر طالب كمر والباحث الأستاذ عبد الأمير الشلاه وحليم شعيله وعدنان طاهر وحسين صالح  وجاسم محمد الصكر، وعباس البياتي شقيق الرفيق حميد موسى سكرتير اللجنة المركزية السابق، وهاشم حمود، وقاسم عبس، وعبد الوهاب القاضي، وجبار معروف، وعبد الهادي حسون، وعبد الإله حسين، و جليل مبارك، وأمين قاسم خليل، وعبد الائمة عبد الهادي، و المناضل رزاق نهام الخفاجي، والشخصية الاجتماعية لطيف بربن، والشخصية الدينية يوسف كركوش وآخرون غيرهم من المناضلين والشخصيات الاجتماعية والثقافية والأساتذة من مختلف الفئات.

وبسبب انقلاب ٨ النشاط الدموي ١٩٦٣ووصول الانقلابيين بواسطة القطار الأمريكي خيمت على العراق ومنها المقهى أجواء مظلمة دموية وكابوس خانق حيث اختفى الكثير من روادها بين معتقل ومطارد ومختف إلا نفر قليل من المستقلين أو غير المعروفين تداهمهم عصابات من الحرس القومي بشكل استفزازي..

 انقلاب ١٨ تشرين الثاني ١٩٦٣ العارفي

 قام عبد السلام عارف مع جماعته العسكريين القوميين بانقلاب على حلفائه البعثيين وإزاحتهم عن السلطة وسيطرته على الحكم في ١٨ تشرين الثاني ١٩٦٣، فتنفس الشعب العراقي الصعداء وأعلن عن ابتهاجه بذلك الانقلاب. حتى الحزب الشيوعي. ومع استمرار عارف بنهجه الدكتاتوري المعادي للشيوعية إلا أنه أطلق سراح السجناء الشيوعيين ممن أنهوا محكوميتهم. عاود المناضلون إلى مقهاهم وغيرها ممن اعتادوا الجلوس فيها. ومن الاحداث والحوارات التي شهدت المقهى رفض القواعد خط اب ١٩٦٤.

وبعد نهاية عبد السلام عارف في حادثة الطائرة المعروف تولى السلطة عبد الرحمن عارف.

في هذه الفترة حدثت تطورات وتغييرات سياسية في العالم كان لها آثارها في الساحة السياسية العراقية منها نكسة حرب حزيران ١٩٦٧، وانتصار حركات التحرر الوطني بالكفاح المسلح في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوربا. كما شهدت نوعا من الحرية والحراك السياسي للأحزاب الوطنية.

كل هذا كان حاضرا في المقهى مع ازدياد انتشار الصحف والكتب التقدمية بمختلف الاتجاهات والمصادر، وكان الحدث الكبير الذي هز العراق ونظام الحكم والعالم هو هروب سجناء سجن الحلة، الذي حرك حماس الجماهير وعودة الكثير لصفوف الحزب رغم استمرار حملة المطاردة للشيوعيين في كافة انحاء العراق.

ومع تدهور الأوضاع السياسية ولاقتصادية والاجتماعية في البلاد وانتشار الفساد والصراع داخل أجنحة السلطة، دفع الأحزاب والقوى الوطنية والقومية للعمل على الإطاحة بالنظام.

 انقلاب ١٧تموز ١٩٦٨

  عاد حزب البعث جناح أحمد حسن البكر وصدام حسين بالتعاون مع القادة العسكريين في القصر للحكم وإزاحة حكم عبد الرحمن عارف.

وخلال هذه الفترة أصدر الحزب الحاكم قرارات وطنية تحررية أحدثت تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية ثقافية وديمقراطية كان لها الأثر في حياة الشعب العراقي على المستويين الداخلي والعالمي وكانت الغاية منها تبييض صفحته الشباطية السوداء.

 تمتع الشعب فيها بنوع من الحرية والديمقراطية المقيدة للسلطة ومن أبرزها إعلان الجبهة الوطنية في ١٧ تموز ١٩٧٣ بين البعث والحزب الشيوعي.  ألقت تلك الفترة بظلالها على المقهى حيث اكتظت بروادها من جميع الفئات وخاصة من مثقفين وتربويين وطلبة المعاهد والكليات، ومن مختلف أنحاء المحافظة، وازدهرت بالنشاطات السياسية والثقافية، وأنارت الصحف والكتب التقدمية من مختلف الاتجاهات ومنها طريق الشعب، والفكر الجديد والثقافة الجديدة والتآخي وغيرها

كانت المقهى تغص بالحوارات السياسية لنشر الوعي الوطني التحرري ودعم سياسة الحزب للتحالف الجبهوي لدعم مسيرة العراق نحو الديمقراطية و(بالتطور اللارأسمالي إلى الاشتراكية). مع اكتظاظ المقهى بكوادر وأصدقاء الحزب الشيوعي، كانت تملأ بالعناصر الأمنية والحزبية وعملائها لرصد ذلك النشاط، بالإضافة إلى الجلسات الصباحية الحوارية كانت هناك جلسات مسائية على شاطئ النهر.

وأدخلت إلى المقهى وسائل اللهو كالشطرنج ولعبة البليارد وكرة المنضدة كما أنشئ فيها مسرح لتقديم المسرحيات..

وبفعل ذلك النشاط الثقافي والحواري في كافة الميادين فقد تحولت إلى مدرسة أكاديمية يغترف من مناهلها المعرفية كما أنها صارت فنارا ساطعا لكل قاصد لها من أبناء المحافظة وخارجها من مدن اخرى. ومن أبرز الشخصيات السياسية والثقافية التي تنير المقهى بحضورها ونشاطها.

الشهداء فاضل وتوت، مهدي كامل الزبيدي ممثلا الحزب في الجبهة، حسن رفيق، الصحفي محمد حمزة، أحمد بربن، محمد هاشم، هادي عبس، شاكر بديوي، الاستاذ الباحث ناجح المعموري، ناهض الخياط، حامد الهيتي، عباس لطيف، الشاعر موفق محمد، جعفر هجول، زهير ناهي، د. حسين علوان، شيخ الخطاطين السيد حسام الشلاه، ياسين بربن، فارس عجام.

كذلك الاستاذ كاظم عبد الحسن أبو بسيم والشاعر كاظم الرويعي من المدحتية والشهيد قاسم عبد الامير عجام.  (والكاتب من المحاويل) والعشرات من الرواد الأوائل يصعب ذكرهم.

ورغم الأجواء الربيعية فقد كانت تتخللها غيوم سوداء لما تقوم سلطة الحزب الحاكم بحملة اعتقالات على كوادر الحزب، توجت بانهيار الجبهة   في آذار ١٩٧٨ من حملات اعتقال واسقاط وهروب واختفاء العديد من عناصر بطريق الترهيب والترغيب.

ورغم إزالة المقهى والمنطقة المحيطة بها، وبعد سقوط النظام الصدامي حاول اتحاد ادباء وكتاب بابل والشخصيات الاجتماعية والثقافية إعادة بناء المقهى وجعله منبرا اجتماعيا وثقافيا. وقد رفضت السلطات المحاصصة الحاكمة تلك الجهود. ورغم ذلك تبقى مقهى أبو سراج خالدة وفنارا ساطعا في ذاكرة الحليين وتأريخا حافلا بالذكريات لمرحلة من مراحله السياسية والثقافية لمدينة العلم والحضارة الحلة الفيحاء.

عرض مقالات: