توصف الممارسة النقدية بأنها هضم فكري للنظريات والفرضيات والاتجاهات ثم إعادة تمثيلها بكتابة( نقدية). بيد أن ما تصطبغ به الممارسات النقدية الراهنة هو غير ذلك، فالناقد إما منعزل في برج عاجي، متمغنط بالرتابة، متحنط بالتنميط المنهجي، متقيد بالتحييد، متحجر عند مقولات لا يني يكررها، وأما هو يتقوقع عند أصنام نقدية يجلُّها ويكبر نفعيتها ويقدس منجزها، سائرا على ما سارت عليه او هو محظوظ بما تتوفر له من مكائن إعلامية وأبواق ترويج خاصة كجوائز أو مناصب أو ولاءات تمنحه ما يريد، وتضيف إلى اسمه الكثير من البريق واللمعان.

ويبقى إخلاص الناقد وعيا وطموحا لوظيفته هو الذي يجعل ممارسته النقدية فاعلة وربما متميزة ومن ثم يستطيع أن يضيف جديدا نوعيا للمشهد النقدي، يحرك المشهد الادبي ويديم فاعليته، بعيدا عن الغايات الترويجية والاعلامية التي بإمكانها أن تنقل أحدهم من الثرى الى الثريا وتجعل فعله السطحي نوعيا، ولكن ذلك لن ينفع على المدى البعيد كونه لن يغير من حقيقة السطحية والضحالة التي يتشح بها فعله النقدي، أيا كان منصب صاحب هذا الفعل وموقعه الوظيفي. إذ أن الذبول والهرم سيظلان يهددانه، ما دام الفعل النقدي ليس أصيلا وما دامت النية النقدية غير بريئة ولا سليمة.

وما كان لنقادنا الكبار أن يضمنوا لأنفسهم مكانة نقدية لا يختلف عليها اثنان؛ إلا بسبب إخلاصهم الحقيقي وطموحاتهم الفذة، ومن ثم كان العلو والرفعة سمة أعمالهم من دون أي افتعال إعلامي أو فذلكات غير أدبية، عرفناهم طليعيين في ممارساتهم النقدية الأصيلة التي أوقفتهم على قمم النجاح لا مشارفها، وسيبقون كذلك مهما مر الزمان وتبدلت الأحوال.

وما يحتاجه ناقدنا العربي الراهن هو المزيد من التثبت الذي به يستوي ميزان نقده ويقوى وعيه وتتوكد معايير نظره، مؤهلا ممارساته النقدية لأن تكون إضافة نوعية للمشهد النقدي لا مجرد فائض كتابي تغنيه النقول من الكتب وتوسعه عروض واستجماعات من هنا وهناك. فالممارسة النقدية عمل جذري وأصالة بنائية مفعمة بالتجديد والامتثال، تقبض على المشتركات والمتضادات بتوازن.

وعندذاك لن يكون الناقد سلطانا يغتر بصولجانه وطاووسا يعجب بغروره يريد لممارسته النقدية أن تكون فريدة وحيدة لا مثيل لها. لان معيارية النقد تتحدد في ما تضيفه الممارسة التطبيقية الى البنية النظرية التجريدية من جديد فيكون حال الناقد في موازنته بين القديم والجديد كمثل السنديان يعمر وهو محتفظ بجماله رونقا واشراقا وتألقا يعطي لناظره البهاء الذي فيه للمحتسب اعتبار وللمتأمل مثال. وبهذا الوصف يكون الناقد الحق حيا متبرعما دوما متساميا بوعي شمولي، فيغدو هو الفيلسوف والاديب والمحلل والمؤرخ والكاتب والقارئ والهاوي المجرب والمحترف المتدبر، المفعم بالتعدد والمفكر المتمثل للتناقض والانسجام، والطامح للتجديد الذي يرنو للموروث، والمتملص من المعايير والمستجيب للتقانات والمتعدد في المنظورات. فالممارسة النقدية معقدة ومتشابكة وغير نهائية، وهي تاريخ من الاختلافات وأنظمة من الصراعات وشهادات من الوقائع وصلات من القيم والموضوعات واندماجات من الاتجاهات والهويات والاطروحات والمرتكزات.

ولا يعني هذا الوصف عسر الممارسة النقدية؛ بل هو تطمين للقارئ أن النقد ليس فعلا عابرا، وأن من الحق الثقة بمن هو ناقد، استيعابا لمعنى مفردة( النقد) وفحوى عمل( الناقد) كاستراتيجيات وتمثلات تعكس علمه ونهجه وثقافته وضميره. فيجد القارئ في النقد أرضا معطاء وليس يبابا، كمظهر لانتاج فكري يستحق القراءة والصبر عليها، يستحضر طفولة الإنسانية جنبا إلى جنب الحضارة المدنية، مرتقيا بالفكر من التبسيط إلى التعقيد ومن التشتت إلى التركيز ومن المعاداة الى التسامي ومن الركود إلى التحريك ومن التلقائية إلى القصدية.

وهذه الأخيرة هي التي نشدد عليها؛ فلولاها ما كان لنا أن ندرك حجم الممارسة النقدية وجسامة فعلها وهول عملها وشجاعة المتحلي بها. وكيف أنها نفسها تزدري كل من يتطفل عليها طارئا ويحسب عليها عرضا، ساخرة منه ونافرة عنه حتى لا تنفعه معها هيبته الوجاهية أو مكانته الاجتماعية او حظوظه القدرية. فالمحك هو قصدية الممارسة وجديتها بمعزل عن مسميات صاحبها الجذابة ورغباته المعلنة والمتدارية أو تنطعاته ومساعيه وفذلكاته المموهة. وما ندين به لنقادنا الأُصلاء هو قصديتهم التي ضمنت لهم الأصالة والأمانة والنقاء، فكانوا مثالا وسيظلون كذلك، مدللين بشكل غير مباشر على ما يضادهم من النقاد الخلطاء، الذين هم مشخّصون بفضل ما يمدنا به أولئك الأصلاء الذين يحضرون في وعينا من أمثلةً نقديةً، هي نماذج تيسّر علينا مهمة رصد الخلطاء والتدليل عليهم فعلا وقولا.

اذن الفيصل في تسمية أحدهم ناقدا أصيلا هو في نوعية الممارسة التي تمهد لها مقدمات منطقية وبمداخل جادة وابتداءات مرصودة، تُساق بصورة طبيعية فتغدو بمرور الزمن مستفيضة في محصلاتها، تحصي المسببات وتؤشر على المؤثرات وتجترح الآليات فلا تهرم بمجرد انتهاء موسمها، لأنها ليست مستجلبة من أروقة جامعات عتيدة حسب، بل هي أيضا مؤسسة على مخزون ثقافي ومرجعيات تراكمية ودقة علمية، تجعل صاحبها حاضرا في حيثيات عمله النقدي.

وما من غرابة في أن تنطلي إعلامية الممارسات غير الأصيلة لا على القراء بمستوياتهم المعهودة حسب، بل تنطلي أحيانا على القراء الكبار ممن هم أدباء لهم وزنهم الإبداعي وذوقهم الأصيل ووعيهم الثاقب، فنجدهم يصفون فلانا الفلاني بأنه ذو إسهام نقدي، به سد النقص في مجال نقد الشعر أو نقد السرد مع أن عشرات النقاد هم في مثل مستوى هذا الفلاني وبموازاته في اعتيادية الممارسة النقدية.

إن مهمة الناقد ليست إعلامية بالترويج والتطبيل سيرا وراء السائرين، يمارس النقد كموضات وتقليعات، بل هو قارئ صاحب أدوات، مُختبَر في ممارسته لها، ومؤتمن في مقاصده النقدية التي يبتغي تحقيقها. وهذا لوحده هو ما يضمن له الأصالة والنجاح، فيبقى اسمه حاضرا على مر الزمان. 

عرض مقالات: